خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ وَحِلْمُهُ عَلَى مَنْ يُخَاطِبُهُ بِمَا الْأَوْلَى خِلَافُهُ، وَأَنَّ مَنْ تَأَسَّى بِهِ مِنَ الْحُكَّامِ فِي ذَلِكَ يُحْمَدُ كَمَنْ لَا يَنْزَعِجُ لِقَوْلِ الْخَصْمِ مَثَلًا احْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّمَا تَوَارَدَا عَلَى سُؤَالِ الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِحُكْمِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ الصِّرْفِ لَا بِالْمُصَالَحَةِ وَلَا الْأَخْذِ بِالْأَرْفَقِ، لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ.
وَفِيهِ أَنَّ حُسْنَ الْأَدَبِ فِي مُخَاطَبَةِ الْكَبِيرِ يَقْتَضِي التَّقْدِيمَ فِي الْخُصُومَةِ وَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ مَسْبُوقًا، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الدَّعْوَى إِذَا جَاءَا مَعًا وَأَمْكَنَ أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا يَدَّعِي، وَاسْتِحْبَابُ اسْتِئْذَانِ الْمُدَّعِي وَالْمُسْتَفْتِي الْحَاكِمَ وَالْعَالِمَ فِي الْكَلَامِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ إِذَا ظَنَّ أَنَّ لَهُ عُذْرًا، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِالْحَدِّ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ إِقَامَتُهُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ مُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَنْ قَذَفَ غَيْرَهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إِلَّا إِنْ طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ، خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ قَالَ يَجِبُ وَلَوْ لَمْ يَطْلُبِ الْمَقْذُوفُ.
قُلْتُ: وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ حَاضِرًا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ غَائِبًا كَهَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّأْخِيرَ لِاسْتِكْشَافِ الْحَالِ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَقْذُوفِ فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ كَمَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَدْ قَالَ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ: إِنَّ سَبَبَ بَعْثِ النَّبِيِّ ﷺ أُنَيْسًا لِلْمَرْأَةِ لِيُعْلِمَهَا بِالْقَذْفِ الْمَذْكُورِ لِتُطَالِبِ بِحَدِّ قَاذِفِهَا إِنْ أَنْكَرَتْ.
قَالَ: هَكَذَا أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ بُعِثَ يَطْلُبُ إِقَامَةَ حَدِّ الزِّنَا، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يُحْتَاطُ لَهُ بِالتَّجَسُّسِ وَالتَّنْقِيبِ عَنْهُ، بَلْ يُسْتَحَبُّ تَلْقِينُ الْمُقِرِّ بِهِ لِيَرْجِعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ وَكَأَنَّ لِقَوْلِهِ: فَإِنِ اعْتَرَفَتْ مُقَابِلًا أَيْ وَإِنْ أَنْكَرَتْ فَأَعْلِمْهَا أَنَّ لَهَا طَلَبَ حَدِّ الْقَذْفِ فَحُذِفَ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ، فَلَوْ أَنْكَرَتْ وَطَلَبَتْ لَأُجِيبَتْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِأَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَجَلَدَهُ انَّبِيُّ ﷺ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ الْمَرْأَةَ فَقَالَتْ: كَذَبَ، فَجَلَدَهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ وَقَدْ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَاسْتَنْكَرَهُ النَّسَائِيُّ.
وَفِيهِ: أَنَّ الْمُخَدَّرَةَ الَّتِي لَا تَعْتَادُ الْبُرُوزَ لَا تُكَلَّفُ الْحُضُورَ لِمَجْلِسِ الْحُكْمِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهَا مَنْ يَحْكُمُ لَهَا وَعَلَيْهَا، وَقَدْ تَرْجَمَ النَّسَائِيُّ لِذَلِكَ.
وَفِيهِ: أَنَّ السَّائِلَ يَذْكُرُ كُلَّ مَا وَقَعَ فِي الْقِصَّةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَفْهَمَ الْمُفْتِي أَوِ الْحَاكِمُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى خُصُوصِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ لِقَوْلِ السَّائِلِ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، وَهُوَ إِنَّمَا جَاءَ يَسْأَلُ عَنْ حُكْمِ الزِّنَا، وَالسِّرُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ لِابْنِهِ مَعْذِرَةً مَا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِالْعِهْرِ وَلَمْ يَهْجُمْ عَلَى الْمَرْأَةِ مَثَلًا وَلَا اسْتَكْرَهَهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ لِطُولِ الْمُلَازَمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَزِيدِ التَّأْنِيسِ وَالْإِدْلَالِ، فَيُسْتَفَادُ مِنْهُ الْحَثُّ عَلَى إِبْعَادِ الْأَجْنَبِيِّ مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ مَهْمَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ الْعِشْرَةَ قَدْ تُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ وَيَتَسَوَّرُ بِهَا الشَّيْطَانُ إِلَى الْإِفْسَادِ.
وَفِيهِ جَوَازُ اسْتِفْتَاءِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ، وَالرَّدُّ عَلَى مَنْ مَنَعَ التَّابِعِيَّ أَنْ يُفْتِيَ مَعَ وُجُودِ الصَّحَابِيِّ مَثَلًا.
وَفِيهِ جَوَازُ الِاكْتِفَاءِ فِي الْحُكْمِ بِالْأَمْرِ النَّاشِئِ عَنِ الظَّنِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْيَقِينِ، لَكِنْ إِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى الْمُسْتَفْتِي يَرْجِعُ إِلَى مَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ الشَّرِيفِ مَنْ يُفْتِي بِالظَّنِّ الَّذِي لَمْ يَنْشَأْ عَنْ أَصْلٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَوْ مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ.
وَفِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُفْتُونَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ وَفِي بَلَدِهِ، وَقَدْ عَقَدَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ بَابًا لِذَلِكَ وَأَخْرَجَ بِأَسَانِيدَ فِيهَا الْوَاقِدِيُّ أَنَّ مِنْهُمْ أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ.
وَفِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَى الظَّنِّ يُنْقَضُ بِمَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَقْبَلُ الْفِدَاءَ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْقَذْفِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَجْرِي الْفِدَاءُ فِي الْبَدَنِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ، وَأَنَّ الصُّلْحَ الْمَبْنِيَّ عَلَى غَيْرِ الشَّرْعِ يُرَدُّ وَيُعَادُ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِيهِ.