الْمَعْرُوفَةُ فِي الْبَلَدِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ بِالدِّينِ وَلَا الصِّدْقِ، وَلَا قَرِينَةَ مَعَهَا عَلَى الْإِكْرَاهِ فَلَا، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَتْ مُتَّهَمَةً، وَعَلَى الثَّانِي يَدُلُّ قَوْلُهُ: أَوْ كَانَ الْحَبَلُ، وَاسْتَنْبَطَ مِنْهُ الْبَاجِيُّ أَنَّ مَنْ وَطِئَ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ فَدَخَلَ مَاؤُهُ فِيهِ فَادَّعَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ لَا يُقْبَلُ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ إِذَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ لَمَا وَجَبَ الرَّجْمُ عَلَى حُبْلَى لِجَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ، وَعَكَسَهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْحُبْلَى بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ حَدٌّ لِاحْتِمَالِ مِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
وَأَجَابَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ: الرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى أَنَّ الْحَبَلَ إِذَا كَانَ مِنْ زِنًا وَجَبَ فِيهِ الرَّجْمُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ كَوْنِهِ مِنْ زِنًى، وَلَا تُرْجَمُ بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا أُتِيَ بِالْمَرْأَةِ الْحُبْلَى وَقَالُوا: إِنَّهَا زَنَتْ وَهِيَ تَبْكِي، فَسَأَلَهَا: مَا يُبْكِيكِ؟ فَأَخْبَرَتْ أَنَّ رَجُلًا رَكِبَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ، فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ؛ فَإِنَّ عُمَرَ قَابَلَ الْحَبَلَ بِالِاعْتِرَافِ، وَقَسِيمُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ قِسْمَهُ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ مَنْ لَا يَرَى الْحَدَّ بِمُجَرَّدِ الْحَبَلِ قِيَامَ الِاحْتِمَالِ بِأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ زِنًى مُحَقَّقٍ، وَأَنَّ الْحَدَّ يُدْفَعُ بِالشُّبْهَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِيهِ أَنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى أَمْرٍ يُرِيدُ الْإِمَامُ أَنْ يُحْدِثَهُ فَلَهُ أَنْ يُنَبِّهَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ إِجْمَالًا لِيَكُونَ إِذَا سَمِعَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ، كَمَا وَقَعَ لِابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ سَعِيدٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ أُمُورَ الشَّرْعِ قَدِ اسْتَقَرَّتْ، فَمَهْمَا أُحْدِثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ تَفْرِيعًا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا سَكَتَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ بَيَانِ ذَلِكَ لَهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ سَيَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ عَلَى الْفَوْرِ.
وَفِيهِ جَوَازُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْإِمَامِ فِي الرَّأْيِ إِذَا خَشِيَ أَمْرًا وَكَانَ فِيمَا أَشَارَ بِهِ رُجْحَانٌ عَلَى مَا أَرَادَهُ الْإِمَامُ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَخْصُوصُونَ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ لِاتِّفَاقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُمَرَ عَلَى ذَلِكَ، كَذَا قَالَ الْمُهَلَّبُ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بَطَّالٍ وَأَقَرَّهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِمْ مَنْ ضَاهَاهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ فِي كُلِّ عَصْرٍ بَلْ وَلَا فِي كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ.
وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى تَبْلِيغِ الْعِلْمِ مِمَّنْ حَفِظَهُ وَفَهِمَهُ وَحَثُّ مَنْ لَا يَفْهَمُ عَلَى عَدَمِ التَّبْلِيغِ إِلَّا إِنْ كَانَ يُورِدُهُ بِلَفْظِهِ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ.
وَأَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى أَنَّ مُنَاسَبَةَ إِيرَادِ عُمَرَ حَدِيثَ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ وَحَدِيثَ الرَّجْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْطَعَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، وَلَا يَتَسَوَّرُ بِرَأْيِهِ فِيهِ فَيَقُولُ أَوْ يَعْمَلُ بِمَا تُزَيِّنُ لَهُ نَفْسُهُ، كَمَا يَقْطَعُ الَّذِي قَالَ لَوْ مَاتَ عُمَرُ بَايَعْتُ فُلَانًا لَمَّا لَمْ يَجِدْ شَرْطَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ، فَقَاسَ مَا أَرَادَ أَنْ يَقَعَ لَهُ بِمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرٍ فَأَخْطَأَ الْقِيَاسَ لِوُجُودِ الْفَارِقِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْهُ وَيَعْمَلَ بِمَا يَدُلُّونَهُ عَلَيْهِ، فَقَدَّمَ عُمَرُ قِصَّةَ الرَّجْمِ وَقِصَّةَ النَّهْيِ عَنِ الرَّغْبَةِ عَنِ الْآبَاءِ وَلَيْسَا مَنْصُوصَيْنِ فِي الْكِتَابِ الْمَتْلُوِّ وَإِنْ كَانَا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَاسْتَمَرَّ حُكْمُهُمَا وَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهُمَا، لَكِنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِأَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنِ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِلَّا فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ نُسِخَ حُكْمُهُ.
وَفِي قَوْلِهِ: أَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ إِشَارَةٌ إِلَى دُرُوسِ الْعِلْمِ مَعَ مُرُورِ الزَّمَنِ فَيَجِدُ الْجُهَّالُ السَّبِيلَ إِلَى التَّأْوِيلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ لَا تُطْرُونِي فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْلِيمِهِمْ مَا يُخْشَى عَلَيْهِمْ جَهْلُهُ، قَالَ: وَفِيهِ اهْتِمَامُ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ بِالْقُرْآنِ وَالْمَنْعُ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْمُصْحَفِ، وَكَذَا مَنْعُ النَّقْصِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إِنَّمَا تُمْنَعُ لِئَلَّا يُضَافَ إِلَى الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَإِطْرَاحُ بَعْضِهِ أَشَدُّ.
قَالَ: وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ كُلَّ مَا نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ كَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ زِيَادَةٍ لَيْسَتْ فِي الْإِمَامِ، إِنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ وَنَحْوِهِ، قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا فِي الْإِمَامِ، وَبَقِيَتْ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ تُنْقَلُ لَا عَلَى أَنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الْمُصْحَفِ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ