الشَّكُّ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ فَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: فَلْيَجْلِدْهَا ثَلَاثًا فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَبِعْهَا، وَنَحْوُهُ فِي مُرْسَلِ عِكْرِمَةَ عِنْدَ أَبِي قُرَّةَ بِلَفْظِ وَإِذَا زَنَتِ الرَّابِعَةَ فَبِيعُوهَا.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ: ثُمَّ إِنْ زَنَتِ الثَّالِثَةَ فَلْيَبِعْهَا، وَمُحَصَّلُ الِاخْتِلَافِ هَلْ يَجْلِدُهَا فِي الرَّابِعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ يَبِيعُهَا بِلَا جَلْدٍ؟ وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ، وَيَكُونُ سُكُوتُ مَنْ سَكَتَ عَنْهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَلْدَ لَا يُتْرَكُ وَلَا يَقُومُ الْبَيْعُ مَقَامَهُ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فِي الْجَلْدِ لِأَنَّهُ الْمُحَقَّقُ فَيُلْغَى الشَّكُّ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى الثَّلَاثِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ بِضَفِيرٍ أَيْ: حَبْلٍ مَضْفُورٍ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَقْبُرِيِّ: وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ وَأَصْلُ الضَّفْرِ نَسْجُ الشَّعْرِ وَإِدْخَالُ بَعْضِهِ فِي بَعْضٍ وَمِنْهُ ضَفَائِرُ شَعْرِ الرَّأْسِ لِلْمَرْأَةِ وَلِلرَّجُلِ، قِيلَ: لَا يَكُونُ مَضْفُورًا إِلَّا إِنْ كَانَ مِنْ ثَلَاثٍ، وَقِيلَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ عَرِيضًا وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الزِّنَا عَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ الرَّقِيقُ لِلْأَمْرِ بِالْحَطِّ مِنْ قِيمَةِ الْمَرْقُوقِ إِذَا وُجِدَ مِنْهُ الزِّنَا، كَذَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ وَلَوِ انْحَطَّتِ الْقِيمَةُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ لَا إِخْبَارًا عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ تَصْرِيحٌ بِالْأَمْرِ مِنْ حَطِّ الْقِيمَةِ.
وَفِيهِ أَنَّ مَنْ زَنَى فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثُمَّ عَادَ أُعِيدَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ زَنَى مِرَارًا فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى الرَّاجِحِ.
وَفِيهِ الزَّجْرُ عَنْ مُخَالَطَةِ الْفُسَّاقِ وَمُعَاشَرَتِهِمْ وَلَوْ كَانُوا مِنَ الْأَلْزَامِ إِذَا تَكَرَّرَ زَجْرُهُمْ وَلَمْ يَرْتَدِعُوا وَيَقَعُ الزَّجْرُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ الْحَدُّ وَبِالتَّعْزِيرِ فِيمَا لَا حَدَّ فِيهِ.
وَفِيهِ جَوَازُ عَطْفِ الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلنَّدْبِ عَلَى الْأَمْرِ الْمُقْتَضِي لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْجَلْدِ وَاجِبٌ وَالْأَمْرَ بِالْبَيْعِ مَنْدُوبٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ، وَادَّعَى بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ سَبَبَ صَرْفِ الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، وَمِمَّنْ حَكَاهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ وَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتٍ.
وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: حَمَلَ الْفُقَهَاءُ الْأَمْرَ بِالْبَيْعِ عَلَى الْحَضِّ عَلَى مُسَاعَدَةِ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ الزِّنَا لِئَلَّا يُظَنَّ بِالسَّيِّدِ الرِّضَا بِذَلِكَ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَسِيلَةِ إِلَى تَكْثِيرِ أَوْلَادِ الزِّنَا، قَالَ: وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ وَلَا سَلَفَ لَهُ مِنَ الْأُمَّةِ فَلَا يُسْتَقَلُّ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ فَكَيْفَ يَجِبُ بَيْعُ الْأَمَةِ ذَاتِ الْقِيمَةِ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ لَا قِيمَةَ لَهُ: فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الزَّجْرُ عَنْ مُعَاشَرَةِ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى بَيْعِ الثَّمِينِ بِالْحَقِيرِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُطْلَقِ التَّصَرُّفِ مَالَهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ وَلَوْ كَانَ بِمَا يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ عَلَى أَحَدِ الْأَجْوِبَةِ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمَفْحَصِ لَا يَسَعُ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا حَقِيقَةً، فَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي عَيْن مَمْلُوكَةٍ لِلمَحْجُور فَلَا يَبِيعُهَا وَلِيُّهُ إِلَّا بِالْقِيمَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَطَّرِدَ؛ لِأَنَّ عَيْبَ الزِّنَا تَنْقُصُ بِهِ الْقِيمَةُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، فَيَكُونُ بَيْعُهَا بِالنُّقْصَانِ بَيْعًا بِثَمَنِ الْمِثْلِ؛ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْمُرَادُ مِنَ الْحدِيثِ الْإِسْرَاعُ بِالْبَيْعِ وَإِمْضَاؤُهُ وَلَا يُتَرَبَّصُ بِهِ طَلَبُ الرَّاغِبِ فِي الزِّيَادَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بَيْعَهُ بِقِيمَةِ الْحَبْلِ حَقِيقَةً، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يُعْلِمَ الْمُشْتَرِيَ بِعَيْبِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا إِنَّمَا تَنْقُصُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ، حَكَاهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَتَعَقَّبَهُ بِأَنَّ الْعَيْبَ لَوْ لَمْ يُعْلَمْ لَم تَنْقُصُ الْقِيمَةُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِعْلَامِ، وَاسْتُشْكِلَ الْأَمْرُ بِبَيْعِ الرَّقِيقِ إِذَا زَنَى مَعَ أَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مَأْمُورٌ أَنْ يَرَى لِأَخِيهِ مَا يَرَى لِنَفْسِهِ، وَمِنْ لَزِمِ الْبَيْعِ أَنْ يُوَافِقَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَنْ يَقْتَنِيَ مَا لَا يَرْضَى اقْتِنَاءَهُ لِنَفْسِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بَاعَهُ لِأَجْلِهِ لَيْسَ مُحَقَّقَ الْوُقُوعِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِجَوَازِ أَنْ يَرْتَدِعَ الرَّقِيقُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَتَى عَادَ أُخْرِجَ فَإِنَّ الْإِخْرَاجَ مِنَ الْوَطَنِ الْمَأْلُوفِ شَاقٌّ، وَلِجَوَازِ أَنْ يَقَعَ الْإِعْفَافُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ.