مُسْتَقِلَّةٌ وَإِلَّا لَكَانَتِ الْخِصَالُ أَرْبَعًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: مُسْلِمٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّهَا صِفَةٌ مُفَسِّرَةٌ لِقَوْلِهِ: مُسْلِمٌ وَلَيْسَتْ قَيْدًا فِيهِ؛ إِذْ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إِلَّا بِذَلِكَ.
وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْتُهُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: أَوْ يَكْفُرُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَفِي لَفْظٍ لَهُ صَحِيحٍ أَيْضًا: ارْتَدَّ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، وَلَهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ غَالِبٍ عَنْ عَائِشَةَ: أَوْ كَفَرَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ (١) مُرْتَدٌّ بَعْدَ إِيمَانٍ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الرِّدَّةُ سَبَبٌ لِإِبَاحَةِ دَمِ الْمُسْلِمِ بِالْإِجْمَاعِ فِي الرَّجُلِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَفِيهَا خِلَافٌ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِلْجُمْهُورِ فِي أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الرَّجُلِ لِاسْتِوَاءِ حُكْمِهِمَا فِي الزِّنَا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهَا دَلَالَةُ اقْتِرَانٍ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: التَّارِكُ لِدِينِهِ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلْمَارِقِ أَيِ الَّذِي تَرَكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ أَحَدٌ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ غَيْرِ الَّذِي عُدِّدَ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ ذَلِكَ، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُخَالِفُ لِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَيَكُونُ مُتَمَسَّكًا لِمَنْ يَقُولُ: مُخَالِفُ الْإِجْمَاعِ كَافِرٌ، وَقَدْ نُسِبَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ النَّاسِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْهَيِّنِ فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الْإِجْمَاعِيَّةَ تَارَةً يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ مَثَلًا وَتَارَةً لَا يَصْحَبُهَا التَّوَاتُرُ، فَالْأَوَّلُ يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ لِمُخَالَفَةِ التَّوَاتُرِ لَا لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي لَا يُكَفَّرُ بِهِ.
قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: الصَّحِيحُ فِي تَكْفِيرِ مُنْكِرِ الْإِجْمَاعِ تَقْيِيدُهُ بِإِنْكَارِ مَا يُعْلَمُ وُجُوبُهُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ بِإِنْكَارِ مَا عُلِمَ وُجُوبُهُ بِالتَّوَاتُرِ وَمِنْهُ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَعَ هُنَا مَنْ يَدَّعِي الْحِذْقَ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَيَمِيلُ إِلَى الْفَلْسَفَةِ فَظَنَّ أَنَّ الْمُخَالِفَ فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ لَا يُكَفَّرُ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَتَمَسَّكَ بِقَوْلِنَا إِنَّ مُنْكِرَ الْإِجْمَاعِ لَا يُكَفَّرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّقْلُ بِذَلِكَ مُتَوَاتِرًا عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، قَالَ وَهُوَ تَمَسُّكٌ سَاقِطٌ إِمَّا عَنْ عَمًى فِي الْبَصِيرَةِ أَوْ تَعَامٍ لِأَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ قَبِيلِ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ وَالتَّوَاتُرُ بِالنَّقْلِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُهُ: التَّارِكُ لِدِينِهِ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنِ ارْتَدَّ بِأَيِّ رِدَّةٍ كَانَتْ فَيَجِبُ قَتْلُهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَقَوْلُهُ: الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ خَارِجٍ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِبِدْعَةٍ أَوْ نَفْيِ إِجْمَاعٍ كَالرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، كَذَا قَالَ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ أَنَّهُ نَعْتٌ لِلتَّارِكِ لِدِينِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا ارْتَدَّ فَارَقَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، غَيْرَ أَنَّهُ يَلْتَحِقُ بِهِ كُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ كَمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ إِذَا وَجَبَ وَيُقَاتِلُ عَلَى ذَلِكَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالْمُحَارِبِينَ مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، قَالَ: فَيَتَنَاوَلُهُمْ لَفْظُ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الْحَصْرُ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَنْفِيَ مَنْ ذُكِرَ وَدَمُهُ حَلَالٌ فَلَا يَصِحُّ الْحَصْرُ، وَكَلَامُ الشَّارِعِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ وَصْفَ الْمُفَارَقَةِ لِلْجَمَاعَةِ يَعُمُّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ.
قَالَ: وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ تَرَكَ دِينَهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرْتَدَّ تَرَكَ كُلَّهُ وَالْمُفَارِقَ بِغَيْرِ رِدَّةٍ تَرَكَ بَعْضَهُ، انْتَهَى.
وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ لِأَنَّ أَصْلَ الْخَصْلَةِ الثَّالِثَةِ الِارْتِدَادُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ، وَالْمُفَارِقُ بِغَيْرِ رِدَّةٍ لَا يُسَمَّى مُرْتَدًّا فَيَلْزَمُ الْخُلْفُ فِي الْحَصْرِ، وَالتَّحْقِيقُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِيمَنْ يَجِبُ قَتْلُهُ عَيْنًا، وَأَمَّا مَنْ ذَكَرَهُمْ فَإِنَّ قَتْلَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ إِنَّمَا يُبَاحُ إِذَا وَقَعَ حَالَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أُسِرَ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ صَبْرًا اتِّفَاقًا فِي غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ، وَعَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمُحَارِبِينَ أَيْضًا، لَكِنْ يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ قَتْلُ تَارِكِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَعَرَّضَ لَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فَقَالَ: اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَارِكَ
(١) في نسخة "عند الطبراني"