أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ، فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى، فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ - يَعْنِي الْيُسْرَى - ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ.
قَوْلُهُ: (بَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ) مُرَادُهُ بِهَذَا التَّنْبِيهُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الِاغْتِرَافِ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا، وَالْإِشَارَةُ إِلَى تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَغْسِلُ وَجْهَهُ بِيَمِينِهِ. وَجَمَعَ الْحَلِيمِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ هَذَا حَيْثُ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ إِنَاءٍ يَصُبُّ مِنْهُ بِيَسَارِهِ عَلَى يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ حَيْثُ كَانَ يَغْتَرِفُ، لَكِنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يَأْبَاهُ ; لِأَنَّ فِيهِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلَ الْمَاءَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ أَضَافَهُ إِلَى الْأُخْرَى وَغَسَلَ بِهِمَا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ أَبُو يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِصَاعِقَةَ. وَكَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ، وَهُوَ مِنْ صِغَارِ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادُ، وَشَيْخُهُ مَنْصُورٌ كَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ أَيْضًا، وَقَدْ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ لَكِنَّهُ لَمْ يَلْقَهُ. وَفِي الْإِسْنَادِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ: زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهُ تَوَضَّأَ) زَادَ أَبُو دَاوُدَ فِي أَوَّلِهِ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَتُحِبُّونَ أَنْ أُرِيَكُمْ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ. وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ، عَنْ زَيْدٍ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَغَرَفَ غَرْفَةً.
قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ وَجْهَهُ) الْفَاءُ تَفْصِيلِيَّةٌ لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَصَّلِ.
قَوْلُهُ: (أَخْذَ غَرْفَةً) وَهُوَ بَيَانُ الْغَسْلِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ مِنْ جُمْلَةِ غَسْلِ الْوَجْهِ ; لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ أَوَّلًا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ ; بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَعَادَ ذِكْرَهُ ثَانِيًا بَعْدَ ذِكْرِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ بِغَرْفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَفِيهِ دَلِيلُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَغَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ جَمِيعًا إِذَا كَانَ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْيَدَ الْوَاحِدَةَ قَدْ لَا تَسْتَوْعِبُهُ.
قَوْلُهُ: (أَضَافَهَا) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا.
قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ بِهَا) أَيْ: بِالْغَرْفَةِ. وَلِلْأَصِيلِيِّ وَكَرِيمَةَ فَغَسَلَ بِهِمَا أَيْ بِالْيَدَيْنِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ) لَمْ يَذْكُرْ لَهَا غَرْفَةً مُسْتَقِلَّةً، فَقَدْ يَتَمَسَّكُ بِهِ مَنْ يَقُولُ بِطَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ نَفَضَ يَدَهُ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ زَادَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ زَيْدٍ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَجْلَانَ بَاطِنَهُمَا بِالسَّبَّاحَتَيْنِ وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ وَزَادَ ابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ فِيهِمَا.
قَوْلُهُ: (فَرَشَّ) أَيْ: سَكَبَ الْمَاءَ قَلِيلًا قَلِيلًا إِلَى أَنْ صَدَقَ عَلَيْهِ مُسَمَّى الْغَسْلِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى غَسَلَهَا) صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِالرَّشِّ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالْحَاكِمِ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَفِيهَا النَّعْلُ، ثُمَّ مَسَحَهَا بِيَدَيْهِ يَدٌ فَوْقَ الْقَدَمِ وَيَدٌ تَحْتَ النَّعْلِ فَالْمُرَادُ بِالْمَسْحِ تَسْيِيلُ الْمَاءِ حَتَّى يَسْتَوْعِبُ الْعُضْوَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يَتَوَضَّأُ فِي النَّعْلِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: تَحْتَ النَّعْلِ: فَإِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى التَّجَوُّزِ عَنِ الْقَدَمِ وَإِلَّا فَهِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ وَرَاوِيهَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ لَا يُحْتَجُّ بِمَا تَفَرَّدَ بِهِ فَكَيْفَ إِذَا خَالَفَ.
قَوْلُهُ: (فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ يَعْنِي الْيُسْرَى) قَائِلُ: يَعْنِي هُوَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَوْ مَنْ دُونَهُ، وَاسْتَدَلَّ ابْنُ بَطَّالٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَهُورٌ ; لِأَنَّ الْعُضْوَ إِذَا غُسِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّ الْمَاءَ الَّذِي يَبْقَى فِي الْيَدِ مِنْهَا يُلَاقِي مَاءَ الْعُضْوِ الَّذِي يَلِيهِ. وَأَيْضًا فَالْغَرْفَةُ تُلَاقِي أَوَّلَ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ كُلِّ عُضْوٍ فَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَاءَ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِالْيَدِ مَثَلًا لَا يُسَمَّى مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَنْفَصِلَ، وَفِي الْجَوَابِ بَحْثٌ.
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ رَوَاهُ بِلَفْظِ فَعَلَّ بِهَا رِجْلَهُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَاللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ قَالَ: فَلَعَلَّهُ جَعَلَ الرِّجْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ فَعَدَّ الْغَسْلَةَ الثَّانِيَةَ تَكْرِيرًا لِأَنَّ الْعَلَّ هُوَ الشُّرْبُ الثَّانِي. انْتَهَى، وَهُوَ تَكَلُّفٌ ظَاهِرٌ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ.