قَالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ اعْدِلْ. فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، قَالَ: دَعْهُ.
وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ السَّبَبِ فِي الْأَمْرِ بِتَرْكِهِ، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ، فَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ بِلَالِ بْنِ يَقْطُرَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِمُوَيْلٍ فَقَعَدَ يَقْسِمُهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ: فَقَالَ أَصْحَابُهُ: أَلَا تَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: لَا أُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ نَحْوُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَفِيهِ: فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابُهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ، لَكِنَّ الْقِصَّةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ صَرَّحَ فِي حَدِيثِهِ بِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْصَرَفَ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْجِعِرَّانَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَكَانَ الَّذِي قَسَمَهُ النَّبِيُّ ﷺ حِينَئِذٍ فِضَّةً كَانَتْ فِي ثَوْبِ بِلَالٍ، وَكَانَ يُعْطِي كُلَّ مَنْ جَاءَ مِنْهَا، وَالْقِصَّةُ الَّتِي فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ صَرَّحَ فِي رِوَايَةِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ بَعْثِ عَلِيٍّ إِلَى الْيَمَنِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَكَانَ الْمَقْسُومُ فِيهَا ذَهَبًا وَخَصَّ بِهِ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ، فَهُمَا قِصَّتَانِ فِي وَقْتَيْنِ اتَّفَقَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِنْكَارُ الْقَائِلِ، وَصَرَّحَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ، وَلَمْ يُسَمِّ الْقَائِلَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ، وَوَهِمَ مَنْ سَمَّاهُ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ ظَانًّا اتِّحَادَ الْقِصَّتَيْنِ.
وَوَجَدْتُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَهُوَ يَقْسِمُ شَيْئًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ وَلَمْ يُسَمِّ الرَّجُلَ أَيْضًا، وَسَمَّاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ.
وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرِيُّ أَيْضًا وَلَفْظُهُ: أَتَى ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَقْسِمُ الْغَنَائِمَ بِحُنَيْنٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَ قِسْمَةِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ وَعِنْدَ قِسْمَةِ الذَّهَبِ الَّذِي بَعَثَهُ عَلِيٌّ.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: التَّرْجَمَةُ فِي تَرْكِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ، وَالْحَدِيثُ فِي تَرْكِ الْقَتْلِ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْجَمِيعِ إِذَا أَظْهَرُوا رَأْيَهُمْ وَنَصَبُوا لِلنَّاسِ الْقِتَالَ وَجَبَ قِتَالُهُمْ، وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ ﷺ قَتْلَ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَظْهَرَ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَا وَرَاءَهُ، فَلَوْ قَتَلَ مَنْ ظَاهِرُهُ الصَّلَاحُ عِنْدَ النَّاسِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَرُسُوخِهِ فِي الْقُلُوبِ لَنَفَّرَهُمْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ ﷺ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ قِتَالِهِمْ إِذَا هُمْ أَظْهَرُوا رَأْيَهُمْ وَتَرَكُوا الْجَمَاعَةَ وَخَالَفُوا الْأَئِمَّةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى قِتَالِهِمْ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَتْ حَالَةٌ مِثْلُ حَالَةِ الْمَذْكُورِ فَاعْتَقَدَتْ فِرْقَةَ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ مَثَلًا وَلَمْ يَنْصِبُوا حَرْبًا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُمْ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ كَأَنْ يَخْشَى أَنَّهُ لَوْ تَعَرَّضَ لِلْفِرْقَةِ الْمَذْكُورَةِ لَأَظْهَرَ مَنْ يُخْفِي مِثْلَ اعْتِقَادِهِمْ أَمْرَهُ وَنَاضَلَ عَنْهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِخُرُوجِهِمْ وَنَصْبِهِمُ الْقِتَالَ لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ شِدَّةِ الْخَوَارِجِ فِي الْقِتَالِ وَثَبَاتِهِمْ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى الْمَوْتِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكَرَ أَهْلُ الْأَخْبَارِ مِنْ أُمُورِهِمْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ قَالَ: التَّأَلُّفُ إِنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً لِذَلِكَ لِدَفْعِ مَضَرَّتِهِمْ، فَأَمَّا إِذَا أَعْلَى اللَّهُ الْإِسْلَامَ فَلَا يَجِبُ التَّأَلُّفُ إِلَّا أَنْ تَنْزِلَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ لِذَلِكَ فَلِإِمَامِ الْوَقْتِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَأَمَّا تَرْجَمَةُ الْبُخَارِيِّ الْقِتَالَ، وَالْخَبَرُ فِي الْقَتْلِ فَلِأَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ يُؤْخَذُ مِنْ تَرْكِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ:
الْأَوَّلُ: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ، قَوْلُهُ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هُوَ الْجُعْفِيُّ الْمَسْنَدِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ، وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدٍ لَكِنَّهُ لَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ هِشَامٍ الْمَذْكُورِ هُنَا، وَهُوَ ابْنُ يُوسُفَ الصَّنْعَانِيُّ.
قَوْلُهُ: (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ الْمَاضِيَةِ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَنِ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْأَدَبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،