وَهِيَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْقَتْلُ كَذَلِكَ لَا إِكْرَاهَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالْعِتْقُ، فَحَيْثُ قَالُوا بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ اسْتِحْسَانًا فَقَدْ نَاقَضُوا إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِالْإِكْرَاهِ وَقَدْ قَالُوا بِعَدَمِ الْإِكْرَاهِ.
قُلْتُ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ بِعَدَمِ الْإِكْرَاهِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَثْبَتُوهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فِي الْجَمِيعِ لَكِنِ اسْتَحْسَنُوا فِي أَمْرِ الْمَحْرَمِ لِمَعْنًى قَامَ بِهِ، وَقَوْلُهُ فِي أَوَّلِ التَّقْرِيرِ فِي أُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَوْ فِيهِ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ وَأَنَّهَا أَمْثِلَةٌ لَا مِثَالٌ وَاحِدٌ ثُمَّ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَقَوْلُهُ أَيِ الْبُخَارِيُّ إِنَّ تَفْرِيقَهُمْ بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ شَيْءٌ قَالُوهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ أَيْ لَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ اسْتِحْسَانِيٌّ، قَالَ: وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ لِوَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ إِذْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ فَنِّهِ.
قُلْتُ: وَهُوَ عَجَبٌ مِنْهُ لِأَنَّ كِتَ بَ الْبُخَارِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ إِيرَادَ الْأَحَادِيثِ نَقْلًا صِرْفًا بَلْ ظَاهِرُ وَضْعِهِ أَنَّهُ يُجْعَلُ كِتَابًا جَامِعًا لِلْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا، وَفِقْهُهُ فِي تَرَاجِمِهِ، فَلِذَلِكَ يُورِدِ فِيهِ كَثِيرًا الِاخْتِلَافَ الْعَالِيَ وَيُرَجِّحُ أَحْيَانًا وَيَسْكُتُ أَحْيَانًا تَوَقُّفًا عَنِ الْجَزْمِ بِالْحُكْمِ وَيُورِدُ كَثِيرًا مِنِ التَّفَاسِيرِ وَيُشِيرُ فِيهِ إِلَى كَثِيرٍ مِنِ الْعِلَلِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِ الطُّرُقِ عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا أَوْرَدَ فِيهِ شَيْئًا مِنَ الْمَبَاحِثِ لَمْ تُسْتَغْرَبْ، وَأَمَّا رَمْزُهُ إِلَى أَنَّ طَرِيقَةَ الْبَحْثِ لَيْسَتْ مِنْ فَنِّهِ. فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا، فَلِلْبُخَارِيِّ أُسْوَةٌ بِالْأَئِمَّةِ الَّذِينَ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، فَهَذِهِ طَرِيقَتُهُمْ فِي الْبَحْثِ وَهِيَ مُحَصِّلَةٌ لِلْمَقْصُودِ وَإِنْ لَمْ يَعْرُجُوا عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِامْرَأَتِهِ) فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ لِسَارَّةَ.
قَوْلُهُ: (هَذِهِ أُخْتِي وَذَلِكَ فِي اللَّهِ) هَذَا طَرَفٌ مِنْ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَسَارَّةَ مَعَ الْجَبَّارِ، وَقَدْ وَصَلَهُ فِي أَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ فِيهِ وَذَلِكَ فِي اللَّهِ بَلْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ ثِنْتَانِ مِنْهُمَا فِي ذَاتِ اللَّهِ قَوْلُهُ: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الثَّالِثَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: هَذِهِ أُخْتِي لَيْسَتْ فِي ذَاتِ اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ: وَذَلِكَ فِي اللَّهِ مِنْ كَلَامِ الْبُخَارِيِّ وَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَفْهُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمَا مِنْ جِهَةِ مَحْضِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ بِخِلَافِ الثَّالِثَةِ فَإِنَّ فِيهَا شَائِبَةَ نَفْعٍ وَحَظٍّ لَهُ، وَلَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ فِي اللَّهِ أَيْ مِنْ أَجْلِ تَوَصُّلِهِ بِذَلِكَ إِلَى السَّلَامَةِ مِمَّا أَرَادَهُ الْجَبَّارُ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ النَّخَعِيُّ: إِذَا كَانَ الْمُسْتَحْلِفُ ظَالِمًا فَنِيَّةُ الْحَالِفِ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَنِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ) وَصَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادٍ عَنْهُ بِلَفْظِ: إِذَا اسْتُحْلِفَ الرَّجُلُ وَهُوَ مَظْلُومٌ فَالْيَمِينُ عَلَى مَا نَوَى وَعَلَى مَا وَرَّى، وَإِذَا كَانَ ظَالِمًا فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَنِ اسْتَحْلَفَهُ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ بِلَفْظِ: إِذَا كَانَ الْحَالِفُ مَظْلُومًا فَلَهُ أَنْ يُوَرِّيَ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَرِّيَ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: قَوْلُ النَّخَعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَهُ نِيَّةُ الْمَظْلُومِ أَبَدًا.
وَإِلَى مِثْلِهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ النِّيَّةُ نِيَّةُ الْحَالِفِ أَبَدًا.
قُلْتُ: وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحَلِفَ إِنْ كَانَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَالنِّيَّةُ نِيَّةُ الْحَاكِمِ وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى نِيَّةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْحُكْمِ فَالنِّيَّةُ نِيَّةُ الْحَالِفِ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَيُتَصَوَّرُ كَوْنُ الْمُسْتَحْلِفِ مَظْلُومًا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقٌّ فِي قِبَلِ رَجُلٍ فَيَجْحَدَهُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ فَيَسْتَحْلِفُهُ فَتَكُونُ النِّيَّةُ نِيَّتَهُ لَا الْحَالِفِ فَلَا تَنْفَعُهُ فِي ذَلِكَ التَّوْرِيَةُ.
ثم ذكر الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ وقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ مَشْرُوحًا.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ) هُوَ الْبَزَّازُ بِمُعْجَمَتَيْنِ الْبَغْدَادِيُّ الْمُلَقَّبُ صَاعِقَةَ وَهُوَ مِنْ طَبَقَةِ الْبُخَارِيِّ فِي أَكْثَرِ شُيُوخِهِ، وَسَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ فَقَدْ رَوَى عَنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي مَوَاضِعَ أَقْرَبُهَا فِي بَابِ مَنِ اخْتَارَ الضَّرْبَ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ الْبَابِ فِي كِتَابِ الْمَظَالِمِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ