فَإِنْ وَهَبَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ أَوْ بَاعَهَا فِرَارًا وَاحْتِيَالًا لِإِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِنْ أَتْلَفَهَا فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ فِي مَالِهِ
قَوْلُهُ: (بَابٌ فِي الزَّكَاةِ) أَيْ تَرْكُ الْحِيَلِ فِي إِسْقَاطِهَا.
قَوْلُهُ: (وَأَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) هُوَ لَفْظُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فِي الْبَابِ وَهَوُ طَرَفٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَوْرَدَهُ فِي الزَّكَاةِ بِهَذَا السَّنَدِ تَامًّا وَمُفَرَّقًا وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ هُنَاكَ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ، فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
الْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَائِرَ الرَّأْسِ الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ أَوَّلَ الصَّحِيحِ.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي عِشْرِينَ وَمِائَةِ بَعِيرٍ حِقَّتَانِ فَإِنْ أَهْلَكَهَا مُتَعَمِّدًا أَوْ وَهَبَهَا أَوِ احْتَالَ فِيهَا فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمَرْءِ قَبْلَ الْحَوْلِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالذَّبْحِ وَإِذَا لَمْ يَنْوِ الْفِرَارَ مِنَ الصَّدَقَةِ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ التَّحَيُّلُ بِأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ أَوْ يَجْمَعَ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ فَوَّتَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا يَنْوِي بِهِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِشَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ لَزِمَتْهُ الزَّكَاةُ عِنْدَ الْحَوْلِ لِقَوْلِهِ ﷺ: خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إِنْ نَوَى بِتَفْوِيتِهِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ لَا تَضُرُّهُ النِّيَّةُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بِتَمَامِ الْحَوْلِ وَلَا يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ إِلَّا حِينَئِذٍ، قَالَ: وَقَالَ الْمُهَلَّبُ قَصَدَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ كُلَّ حِيلَةٍ يَتَحَيَّلُ بِهَا أَحَدٌ فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ إِثْمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمَّا مَنَعَ مِنْ جَمْعِ الْغَنَمِ أَوْ تَفْرِقَتِهَا خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ فُهِمَ مِنْهُ هَذَا الْمَعْنَى، وَفُهِمَ مِنْ حَدِيثِ طَلْحَةَ فِي قَوْلِهِ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ أَنَّ مَنْ رَامَ أَنْ يَنْقُصَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ بِحِيلَةٍ يَحْتَالُهَا أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ، قَالَ: وَمَا أَجَابَ بِهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ تَصَرُّفِ ذِي الْمَالِ فِي مَالِهِ قُرْبَ حُلُولِ الْحَوْلِ ثُمَّ يُرِيدُ بِذَلِكَ الْفِرَارَ مِنَ الزَّكَاةِ وَمَنْ نَوَى ذَلِكَ فَالْإِثْمُ عَنْهُ غَيْرُ سَاقِطٍ وَهُوَ كَمَنْ فَرَّ عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ قَبْلَ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ بِيَوْمٍ وَاسْتَعْمَلَ سَفَرًا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِيُفْطِرَ فَالْوَعِيدُ إِلَيْهِ يُتَوَجَّهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ يُنْسَبُ لِأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى إِبْطَالِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ النِّصَابُ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنَ الْوُجُوبِ لَا إِسْقَاطٌ لِلْوَاجِبِ، وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مِنْهَا لَمْ يُكْرَهْ، وَلَوْ نَوَى بِتَصَدُّقِهِ بِالدِّرْهَمِ أَنْ يَتِمَّ الْحَوْلُ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ فَلَا يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحُرْمَةَ تُجَامِعُ الْفَرْضَ كَطَوَافِ الْمُحْدِثِ أَوِ الْعَارِي، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْقَصْدُ مَكْرُوهًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟
وَقَوْلُهُ امْتِنَاعٌ مِنَ الْوُجُوبِ مُعْتَرَضٌ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ وَلِذَلِكَ جَازَ التَّعْجِيلُ قَبْلَ الْحَوْلِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الِاحْتِيَالَ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا مَكْرُوهٌ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَقِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّكَاةِ مَكْرُوهًا أَيْضًا وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ أَبُو يُوسُفَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْخَرَاجِ بَعْدَ إِيرَادِ حَدِيثِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْعُ الصَّدَقَةِ وَلَا إِخْرَاجُهَا عَنْ مِلْكِهِ لِمِلْكِ غَيْرِهِ لِيُفَرِّقَهَا بِذَلِكَ فَتَبْطُلَ الصَّدَقَةُ عَنْهَا بِأَنْ يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يُحْتَالُ فِي إِبْطَالِ الصَّدَقَةِ بِوَجْهٍ انْتَهَى.
وَنَقَلَ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ رَاوِي كِتَابِ الْحِيَلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: مَا احْتَالَ بِهِ الْمُسْلِمُ حَتَّى يَتَخَلَّصَ بِهِ مِنَ الْحَرَامِ أَوْ يَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى الْحَلَالِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَا احْتَالَ بِهِ حَتَّى يُبْطِلَ حَقًّا أَوْ يُحِقَّ بَاطِلًا أَوْ لِيُدْخِلَ بِهِ شُبْهَةً فِي حَقٍّ فَهُوَ مَكْرُوهٌ وَالْمَكْرُوهُ عِنْدَهُ إِلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ نَاظَرَ