فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فقيل لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنْهُ شَرْبَةً. فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ وقُلْتُ لها: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: لَا. فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكِ، وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ قُلْتُ - تَقُولُ سَوْدَةُ -: وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أُبَادِئهُ بِالَّذِي قُلْتِ لِي وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُلْتُ له: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ قَالَ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ. قُلْتُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ. قَالَتْ: تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ.
قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي.
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنِ احْتِيَالِ الْمَرْأَةِ مَعَ الزَّوْجِ وَالضَّرَائِرِ وَمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى التَّرْجَمَةِ ظَاهِرٌ. إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي التَّفْسِيرِ الْخِلَافَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ، وَأَنَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ هُوَ الْعَسَلُ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَقِيلَ فِي تَحْرِيمِ مَارِيَةَ، وَأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ. ثُمَّ وَجَدْتُ فِي الطَّبَرَانِيِّ وَتَفْسِيرِ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَامِرٍ الْخَزَّازِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ سَوْدَةَ فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ وَفِي آخِرِهِ فَأُنْزِلَتْ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ وَرُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ: إِلَّا أَنَّ أَبَا عَامِرٍ وَهِمَ فِي قَوْلِهِ سَوْدَةُ.
وذكر فيه حَدِيثُ عَائِشَةَ كَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مَشْرُوحًا وَذَكَرَ مَعَهُ حَدِيثَ عَائِشَةَ مَعَهُ من طَرِيقُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهَا وَفِيهِ أَنَّ الَّتِي سَقَتْهُ الْعَسَلَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَاسْتُشْكِلَتْ قِصَّةُ حَفْصَةَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نُزُولَ ذَلِكَ كَانَ فِي حَقِّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَقَطْ لِتَكْرَارِ التَّثْنِيَةِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنْ تَتُوبَا * وَإِنْ تَظَاهَرَا﴾ وَهُنَا جَاءَ فِيهِ ذِكْرُ ثَلَاثَةٍ، وَجَمَعَ الْكِرْمَانِيُّ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ قِصَّةَ حَفْصَةَ سَابِقَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا سَبَبُ نُزُولٍ وَلَا تَثْنِيَةٌ بِخِلَافِ قِصَّةِ زَيْنَبَ فَفِيهَا تَوَاطَأْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ.
وَحَكَى ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أنَّ الَّتِي سَقَتْهُ الْعَسَلَ حَفْصَةُ غَلَطٌ لِأَنَّ صَفِيَّةَ هِيَ الَّتِي تَظَاهَرَتْ مَعَ عَائِشَةَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَإِنَّمَا شَرِبَهُ عِنْدَ صَفِيَّةَ وَقِيلَ عِنْدَ زَيْنَبَ، كَذَا قَالَ، وَجَزْمُهُ بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا حَفْصَةُ غَلَطٌ مَرْدُودٌ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ غَلَطًا بَلْ هِيَ قِصَّةٌ أُخْرَى، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لَا يُرَدُّ بِمِثْلِ هَذَا، وَيَكْفِي فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ قِصَّةَ زَيْنَبَ لِصَفِيَّةَ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ لِزَيْنَبَ ضَعِيفٌ، وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ صَحِيحٌ وَكِلَاهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِلدَّاوُدِيِّ عَجَائِبُ فِي شَرْحِهِ ذَكَرْتُ مِنْهَا شَيْئًا كَثِيرًا وَمِنْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ جَرَسَتْ مَعْنَاهُ تَغَيَّرَ طَعْمُ الْعَسَلِ لِشَيْءٍ يَأْكُلُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute