حَكَاهَا شَيْخُنَا. ثُمَّ قَالَ: وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ وَحْيَ الْمَنَامِ كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، قَالَ شَيْخُنَا: وَقِيلَ فِي سَابِعِ عَشَرِيٍّ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ، وَقِيلَ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَقِيلَ فِي ثَامِنِهِ انْتَهَى.
وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا أَنَّ مَجِيءَ جِبْرِيلَ كَانَ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِذَا هُوَ بِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ إِلَى الْأَرْضِ وَبَقِيَ مِيكَائِيلُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْحَدِيثَ. فَيُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ يُضَافُ لِمَا تَقَدَّمَ وَلَعَلَّهُ أَرْجَحُهَا.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ اقْرَأْ) قَالَ شَيْخُنَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ جِبْرِيلَ شَيْءٌ قَبْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَلَا السَّلَامُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَلَّمَ وَحُذِفَ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ، وَقَدْ سَلَّمَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُسَلِّمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ تَفْخِيمُ الْأَمْرِ وَتَهْوِيلُهُ، وَقَدْ تَكُونُ مَشْرُوعِيَّةُ ابْتِدَاءِ السَّلَامِ تَتَعَلَّقُ بِالْبَشَرِ لَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ.
قُلْتُ: وَالْحَالَةُ الَّتِي سَلَّمُوا فِيهَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَانُوا فِي صُورَةِ الْبَشَرِ فَلَا تَرِدُ هُنَا، وَلَا يَرِدُ سَلَامُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ أُمُورَ الْآخِرَةِ مُغَايِرَةٌ لِأُمُورِ الدُّنْيَا غَالِبًا، وَقَدْ ذَكَرْتُ عَنْ رِوَايَةِ الطَّيَالِسِيِّ أَنَّ جِبْرِيلَ سَلَّمَ أَوَّلًا وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ سَلَّمَ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْقِرَاءَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا مُنَاسِبٌ لِسِيَاقِ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى هُنَا بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ بِطَرِيقِ الْإِرْسَالِ، وَوَقَعَ مِثْلُهُ فِي التَّفْسِيرِ فِي رِوَايَةِ بَدْءِ الْوَحْيِ اخْتِلَافٌ: هَلْ فِيهِ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، أَوْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، وَجَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ يُونُسُ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ: قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ: وَظَاهِرُهُ أَنَّ عَائِشَةَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَلَا يَكُونُ مِنْ مُرْسَلَاتِ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: (فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ أَفْعَلَ تَرِدُ لِلْتَنْبِيهِ وَلَمْ يَذْكُرُوهُ قَالَهُ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ ثُمَّ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَابِهَا لِطَلَبِ اَلْقِرَاءَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْإِمْكَانَ حَاصِلٌ.
قَوْلُهُ: (فَقَالَ اقْرَأْ) قَالَ شَيْخُنَا الْبُلْقِينِيُّ ﵀: دَلَّتِ الْقِصَّةُ عَلَى أَنَّ مُرَادَ جِبْرِيلَ بِهَذَا أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ ﷺ نَصَّ مَا قَالَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: اقْرَأْ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ اقْرَأْ إِلَى آخِرِهِ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ لَفْظَهُ: قُلْ أَيْضًا مِنَ الْقُرْآنِ.
قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ فِيهِ الِابْتِلَاءَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَا وَقَعَ، ثُمَّ قَالَ شَيْخُنَا: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ اقْرَأْ إِلَى مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّمَطِ الَّذِي وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ أَيْ أُمِّيٌّ لَا أُحْسِنُ قِرَاءَةَ الْكُتُبِ، قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ اقْرَأْ التَّلَفُّظَ بِهَا.
قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ رِوَايَةَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ إِنَّمَا ذَكَرَهَا عَنْ مَنَامٍ تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ حَدِيثِ عَائِشَةَ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ شَيْخُنَا عَلَى مَا كَانَ مَكْتُوبًا فِي ذَلِكَ النَّمَطِ فَقَالَ اقْرَأْ أَيِ الْقَدْرَ الَّذِي أَقْرَأَهُ إِيَّاهُ وَهِيَ الْآيَاتُ الْأُولَى مِنِ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةَ الْقُرْآنِ، وعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقُرْآنُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِاعْتِبَارٍ وَنَزَلَ مُنَجَّمًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، قَالَ: وَفِي إِحْضَارِهِ لَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ آخِرَهُ يَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ ثُمَّ تَكْمُلُ بِاعْتِبَارِ التَّفْصِيلِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ) تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنَّهُ رُوِيَ بِنَصْبِ الدَّالِ وَرَفْعِهَا وَتَوْجِيهِهِمَا، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا أَرَى الَّذِي قَالَهُ بِالنَّصْبِ إِلَّا وَهَمٌ فَإِنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَطَّهُ حَتَّى اسْتَفْرَغَ الْمَلَكُ قُوَّتَهُ فِي ضَغْطِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَزِيدٌ، وَهُوَ قَوْلٌ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْبِنْيَةَ الْبَشَرِيَّةَ لَا تُطِيقُ اسْتِيفَاءَ الْقُوَّةِ الْمَلَكِيَّةَ لَا سِيَّمَا فِي مُبْتَدَأ الْأَمْرِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ دَاخَلَهُ الرُّعْبُ مِنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قَوَّاهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ، وَقَدْ أَجَابَ الطِّيبِيُّ بِأَنَّ جِبْرِيلَ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ عَلَى صُورَتِهِ الْمَلَكِيَّةِ فَيَكُونُ اسْتِفْرَاغُ جَهْدِهِ بِحَسَبِ صُورَتِهِ الَّتِي جَاءَهُ بِهَا حِينَ غَطَّهُ قَالَ: وَإِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ اضْمَحَلَّ الِاسْتِبْعَادُ.
قُلْتُ: التَّرْجِيحُ