بَيْنَ الْجِبَالِ قَالَ: يَا أَبَتِ أَيْنَ قُرْبَانُكَ؟ قَالَ: أَنْتَ يَا بُنَيَّ، ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ الْآيَاتِ، فَقَالَ: اشْدُدْ رِبَاطِي حَتَّى لَا أَضْطَرِبَ، وَاكْفُفْ ثِيَابَكَ حَتَّى لَا يَنْتَضِحَ عَلَيْهَا مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ سَارَّةُ فَتَحْزَنَ، وَأَسْرِعْ مَرَّ السِّكِّينِ عَلَى حَلْقِي لِيَكُونَ أَهْوَنَ عَلَيَّ، فَفَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ يَبْكِي وَأَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ فَلَمْ تَحُزَّ وَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى حَلْقِهِ صَفِيحَةً مِنْ نُحَاسٍ فَكَبَّهُ عَلَى جَبِينِهِ وَحَزَّ فِي قَفَاهُ، فَذَاكَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنُودِيَ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِكَبْشٍ فَأَخَذَهُ وَحَلَّ عَنِ ابْنِهِ.
هَكَذَا ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ: اجْتَمَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَعْبٌ فَحَدَّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، فَقَالَ كَعْبٌ: أَفَلَا أُخْبِرُكَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ؟ لَمَّا رَأَى أَنَّهُ يَذْبَحُ ابْنَهُ إسحاق قَالَ الشَّيْطَانُ: إِنْ لَمْ أَفْتِنْ هَؤُلَاءِ عِنْدَ هَذِهِ لَمْ أَفْتِنْهُمْ أَبَدًا، فَذَهَبَ إِلَى سَارَّةَ فَقَالَ: أَيْنَ ذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ بِابْنِكِ؟ قَالَتْ: فِي حَاجَتِهِ، قَالَ: كَلَّا إِنَّهُ ذَهَبَ بِهِ لِيَذْبَحَهُ يَزْعُمُ أَنَّ رَبَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَخْشَى أَنْ لَا يُطِيعَ رَبَّهُ، فَجَاءَ إِلَى إسحاق فَأَجَابَهُ بِنَحْوِهِ، فَوَاجَهَ إِبْرَاهِيمَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَأَيِسَ أَنْ يُطِيعُوهُ.
وَسَاقَ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ وَزَادَ: أَنَّهُ سَدَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الطَّرِيقَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ أَنْ يَرْمِيَهَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ عِنْدَ كُلِّ جَمْرَةٍ، وَكَأَنَّ قَتَادَةَ أَخَذَ أَوَّلَهُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَآخِرَهُ مِمَّا جَاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ عِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمَّا رَأَى الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ عِنْدَ الْمَسْعَى، فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ فَذَهَبَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى الْعَقَبَةِ، فَعَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى ذَهَبَ، وَكَانَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ قَمِيصٌ أَبْيَضُ، وَتمَّ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ فَقَالَ: يَا أَبَتِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَمِيصٌ تُكَفِّنُنِي فِيهِ غَيْرُهُ فَاخْلَعْهُ، فَنُودِيَ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، فَالْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِكَبْشٍ أَبْيَضَ أَقْرَنَ أَعْيَنَ فَذَبَحَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمُبْتَدَأ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ وَزَادَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَإِنَّ رَأْسَ الْكَبْشِ لَمُعَلَّقٌ بِقَرْنَيْهِ فِي مِيزَابِ الْكَعْبَةِ.
وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَوَارَيْتُ قَرْنَيِ الْكَبْشِ حِينَ دَخَلَ الْبَيْتَ.
وَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ لِمَنْ قَالَ إِنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ الْعَبَّاسِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا.
وَعَنِ الْأَحْنَفِ، عَنِ ابْنِ مَيْسَرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَمَسْرُوقٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَعَطَاءٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَعَنْ عَلِيٍّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَمُعَاوِيَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي الطُّفَيْلِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَ وَحَدِيثُ: أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ رُوِّينَاهُ فِي الْخُلَعِيَّاتِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، وَنَقَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ عَنْ أَبِيهِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَأَطْنَبَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْهَدْيِ فِي الِاسْتِدْلَالِ لِتَقْوِيَتِهِ، وَقَرَأْتُ بِخَطِّ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ أَنَّهُ اسْتَنْبَطَ مِنَ الْقُرْآنِ دَلِيلًا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الصَّافَّاتِ: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ - إِلَى قَوْلِهِ -: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ وَقَوْلُهُ فِي هُودٍ: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ - إِلَى قَوْلِهِ -: ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾
قَالَ: وَوَجْهُ الْأَخْذِ مِنْهُمَا أَنَّ سِيَاقَهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا قِصَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ فِي وَقْتَيْنِ الْأُولَى عَنْ طَلَبٍ مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ لَمَّا هَاجَرَ مِنْ بِلَادِ قَوْمِهِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ فَسَأَلَ مِنْ رَبِّهِ الْوَلَدَ ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ