للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

تَكُونُ خَيَالِيَّةً، وَالنَّفْسُ غَيْرُ الْمِثَالِ الْمُتَخَيَّلِ، فَمَا رَآهُ مِنَ الشَّكْلِ لَيْسَ هُوَ رُوحَ الْمُصْطَفَى وَلَا شَخْصَهُ بَلْ هُوَ مِثَالٌ لَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ، قَالَ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ يَرَى اللَّهَ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّ ذَاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ وَلَكِنْ تَنْتَهِي تَعْرِيفَاتُهُ إِلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ مِثَالٍ مَحْسُوسٍ مِنْ نُورٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمِثَالُ حَقًّا فِي كَوْنِهِ وَاسِطَةً فِي التَّعْرِيفِ فَيَقُولُ الرَّائِي رَأَيْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ لَا يَعْنِي أَنِّي رَأَيْتُ ذَاتَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.

وَقَالَ أَبُو قَاسِمٍ الْقُشَيْرِيُّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّ رُؤْيَاهُ عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ لَا تَسْتَلْزِمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَإِنَّهُ لَوْ رَأَى اللَّهَ عَلَى وَصْفٍ يَتَعَالَى عَنْهُ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي رُؤْيَتِهِ بَلْ يَكُونُ لِتِلْكَ الرُّؤْيَا ضَرْبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ كَمَا قَالَ الْوَاسِطِيُّ: مَنْ رَأَى رَبَّهُ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ كَانَ إِشَارَةً إِلَى وَقَارِ الرَّائِي وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَعْنَى مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ فَلْيَسْتَبْشِرْ وَيَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّؤْيَا الْحَقَّ الَّتِي هِيَ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ مُبَشِّرَةٌ لَا الْبَاطِلُ الَّذِي هُوَ الْحُلْمُ الْمَنْسُوبُ لِلشَّيْطَانِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ أَيْ رُؤْيَةَ الْحَقِّ لَا الْبَاطِلِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ إِذَا اتَّحَدَا دَلَّ عَلَى الْغَايَةِ فِي الْكَمَالِ، أَيْ فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَا لَيْسَ بَعْدَهَا شَيْءٌ.

وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي أَنَّ مَنْ تَمَثَّلَتْ صُورَتُهُ فِي خَاطِرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَتَصَوَّرَتْ لَهُ فِي عَالَمِ سِرِّهِ أَنَّهُ يُكَلِّمُهُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حَقًّا، بَلْ ذَلِكَ أَصْدَقُ مِنْ مَرْأَى غَيْرِهِمْ لِمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَنْوِيرِ قُلُوبِهِمْ، انْتَهَى.

وَهَذَا الْمَقَامُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ الْإِلْهَامُ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَصْنَافِ الْوَحْيِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَلَكِنْ لَمْ أَرَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثَ وَصْفَهُ بِمَا وُصِفَتْ بِهِ الرُّؤْيَا أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: إِنَّ الْمَنَامَ يَرْجِعُ إِلَى قَوَاعِدَ مُقَرَّرَةٍ وَلَهُ تَأْوِيلَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ وَيَقَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ، بِخِلَافِ الْإِلْهَامِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا لِلْخَوَاصِّ وَلَا يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةٍ يُمَيِّزُ بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ ذَكَرُوا أَنَّ الْخَاطِرَ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الْحَقِّ يَسْتَقِرُّ وَلَا يَضْطَرِبُ وَالَّذِي يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَضْطَرِبُ وَلَا يَسْتَقِرُّ، فَهَذَا إِنْ ثَبَتَ كَانَ فَارِقًا وَاضِحًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِذَلِكَ.

قَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِع بَعْدَ أَنْ حَكَى عَنْ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْإِلْهَامَ مَا حَرَّكَ الْقَلْبَ لِعِلْمٍ يَدْعُو إِلَى الْعَمَلِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ: وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عِنْدَ فَقْدِ الْحُجَجِ كُلِّهَا فِي بَابِ الْمُبَاحِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمُبْتَدِعَةِ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ وَبِقَوْلِهِ: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ أَيْ أَلْهَمَهَا حَتَّى عَرَفَتْ مَصَالِحَهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْآدَمِيِّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَذَكَرَ فِيهِ ظَوَاهِرَ أُخْرَى وَمِنْهُ الْحَدِيثُ قَوْلُهُ : اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ.

وَقَوْلُهُ لِوَابِصَةَ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ فَدَعْهُ وَإِنْ أَفْتَوْكَ فَجَعَلَ شَهَادَةَ قَلْبِهِ حُجَّةً مُقَدَّمَةً عَلَى الْفَتْوَى، وَقَوْلُهُ: قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْإِلْهَامَ حَقٌّ وَأَنَّهُ وَحْيٌ بَاطِنٌ، وَإِنَّمَا حُرِمَهُ الْعَاصِي لِاسْتِيلَاءِ وَحْيِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَحُجَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحُجَّةِ وَالْحَثِّ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي الْآيَاتِ وَالِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَذَمِّ الْأَمَانِيِّ وَالْهَوَاجِسِ وَالظُّنُونِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَبِأَنَّ الْخَاطِرُ قَدْ يَكُونُ مِنَ اللَّهِ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَقَدْ يَكُونُ مِنَ النَّفْسِ، وَكُلُّ شَيْءٍ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقًّا لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ حَقٌّ.

قَالَ: وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ أَنَّ مَعْنَاهُ عَرَّفَهَا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَهُوَ الْحُجَجُ، وَأَمَّا الْوَحْيُ إِلَى النَّحْلِ فَنَظِيرُهُ فِي الْآدَمِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّنَائِعِ وَمَا فِيهِ صَلَاحُ الْمَعَاشِ، وَأَمَّا الْفِرَاسَةُ فَنُسَلِّمُهَا لَكِنْ لَا نَجْعَلُ شَهَادَةَ الْقَلْبِ حُجَّةً لِأَنَّا لَا نَتَحَقَّقُ كَوْنَهَا مِنَ اللَّهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَإِنْكَارُ الْإِلْهَامِ مَرْدُودٌ،