للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى وُجُوبِ نَصْرِ الْحَقِّ وَقِتَالِ الْبَاغِينَ، وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ ضَعُفَ عَنِ الْقِتَالِ أَوْ قَصُرَ نَظَرُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ مَنْعِ الطَّعْنِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ عَرَفَ الْمُحِقَّ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ إِلَّا عَنِ اجْتِهَادٍ وَقَدْ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ أَجْرًا وَاحِدًا وَأَنَّ الْمُصِيبَ يُؤْجَرُ أَجْرَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَحَمَلَ هَؤُلَاءِ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَنْ قَاتَلَ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ سَائِغٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ طَلَبِ الْمُلْكِ، وَلَا يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَنْعُ أَبِي بَكْرَةَ، الْأَحْنَفَ مِنَ الْقِتَالِ مَعَ عَلِيٍّ لِأَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْ أَبِي بَكْرَةَ أَدَّاهُ إِلَى الِامْتِنَاعِ وَالْمَنْعِ احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ نَصَحَهُ، وَسَيَأْتِي فِي الْبَاِبِ الَّذِي بَعْدَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ لِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْهَرَبُ مِنْهُ بِلُزُومِ الْمَنَازِلِ وَكَسْرِ السُّيُوفِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ، وَلَوَجَدَ أَهْلُ الْفُسُوقِ سَبِيلًا إِلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَسَبْيِ الْحَرِيمِ بِأَنْ يُحَارِبُوهُمْ وَيَكُفَّ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ عَنْهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا هَذِهِ فِتْنَةٌ وَقَدْ نُهِينَا عَنِ الْقِتَالِ فِيهَا، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ بِالْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ، انْتَهَى.

وَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي حَدِيثِ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ زِيَادَةً تُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَهِيَ: إِذَا اقْتَتَلْتُمْ عَلَى الدُّنْيَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ. فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَبَيَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الْقِتَالَ إِذَا كَانَ عَلَى جَهْلٍ مِنْ طَلَبِ الدُّنْيَا أَوِ اتِّبَاعِ هَوًى فَهُوَ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قُلْتُ: وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الَّذِينَ تَوَقَّفُوا عَنِ الْقِتَالِ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ أَقَلَّ عَدَدًا مِنَ الَّذِينَ قَاتَلُوا، وَكُلُّهُمْ مُتَأَوِّلٌ مَأْجُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، بِخِلَافِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ قَاتَلَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا كَمَا سَيَأْتِي عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ. وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالْعَزْمِ وَإِنْ لَمْ يَقَعِ الْفِعْلُ، وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا فِعْلًا وَهُوَ الْمُوَاجَهَةُ بِالسِّلَاحِ وَوُقُوعُ الْقِتَالِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فِي النَّارِ أَنْ يَكُونَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْقَاتِلُ يُعَذَّبُ عَلَى الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، وَالْمَقْتُولُ يُعَذَّبُ عَلَى الْقِتَالِ فَقَطْ؛ فَلَمْ يَقَعِ التَّعْذِيبُ عَلَى الْعَزْمِ الْمُجَرَّدِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الرِّقَاقِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ اخْتِيَارُ بَابِ الِافْتِعَالِ فِي الشَّرِّ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْمُعَالَجَةِ، بِخِلَافِ الْخَيْرِ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ بِالنِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ أَوْ يَعْمَلُوا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثٌ: الْهَمُّ الْمُجَرَّدُ وَهُوَ يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِالْهَمِّ أَوْ بِالْعَزْمِ وَلَا نِزَاعَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، وَالْعَزْمُ وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الْهَمِّ وَفِيهِ النِّزَاعُ.

(تَنْبِيهٌ): وَرَدَ فِي اعْتِزَالِ الْأَحْنَفِ الْقِتَالَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ سَبَبٌ آخَرُ، فَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ جَاوَانَ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ اعْتِزَالَ الْأَحْنَفِ مَا كَانَ؟ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَحْنَفَ قَالَ: حَجَجْنَا فَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ - يَعْنِي النَّبَوِيَّ - وَفِيهِمْ عَلِيٌّ، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وَسَعْدٌ إِذْ جَاءَ عُثْمَانُ فَذَكَرَ قِصَّةَ مُنَاشَدَتِهِ لَهُمْ فِي ذِكْرِ مَنَاقِبِهِ، قَالَ الْأَحْنَفُ: فَلَقِيتُ طَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَرَى هَذَا الرَّجُلَ - يَعْنِي عُثْمَانَ - إِلَّا مَقْتُولًا، فَمَنْ تَأْمُرَانِي بِهِ؟ قَالَا: عَلِيٌّ. فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَلَقِيتُ عَائِشَةَ