عَنِ الرَّجُلِ يُقِرُّ بِالزِّنَا كَمْ يُرَدُّ؟ قَالَ: مَرَّةً. قَالَ: وَسَأَلْتُ الْحَكَمَ فَقَالَ: أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ قِصَّةِ مَاعِزٍ فِي أَبْوَابِ الرَّجْمِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ فِي قِصَّةِ سَلَبِ الْقَتِيلِ الَّذِي قَتَلَهُ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى هُنَاكَ، وَقَوْلُهُ هُنَا قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ هِيَ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِ، وَعِنْدَ الْكُشْمِيهَنِيِّ مِنِّي وَقَوْلُهُ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ غَيْرِ الْكُشْمِيهَنِيِّ فَعَلِمَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ اللَّامِ بَدَلَ فَقَامَ وَكَذَا لِأَكْثَرِ رُوَاةِ الْفَرَبْرِيِّ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ، وَهُوَ الْمَحْفُوظُ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ هَذِهِ، وَمِنْ ثَمَّ عَقَّبَهَا الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ لِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنِ اللَّيْثِ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَدَّاهُ إِلَيَّ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ فَأَمَرَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ بَعْدَهَا رَاءٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ هُوَ ابْنُ صَالِحٍ أَبُو صَالِحٍ وَهُوَ كَاتِبُ اللَّيْثِ، وَالْبُخَارِيُّ يَعْتَمِدُهُ فِي الشَّوَاهِدِ، وَلَوْ كَانَتْ رِوَايَةُ قُتَيْبَةَ بِلَفْظِ فَقَامَ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ مَعْنًى.
قَالَ الْمُهَلَّبُ: قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ قُتَيْبَةَ: فَعَلِمَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْنِي عَلِمَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ هُوَ قَاتِلُ الْقَتِيلِ الْمَذْكُورِ، قَالَ: وَهِيَ وَهْمٌ قَالَ: وَالصَّحِيحُ فِيهِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ بِلَفْظِ فَقَامَ قَالَ: وَقَدْ رَدَّ بَعْضُ النَّاسِ الْحُجَّةَ الْمَذْكُورَةَ فَقَالَ: لَيْسَ فِي إِقْرَارِ مَاعِزٍ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا حُكْمِهِ بِالرَّجْمِ دُونَ أَنْ يَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ، وَلَا فِي إِعْطَائِهِ السَّلَبَ لِأَبِي قَتَادَةَ حُجَّةٌ لِلْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ مَاعِزًا إِنَّمَا كَانَ إِقْرَارُهُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، إِذْ مَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ ﷺ لَا يَقْعُدُ وَحْدَهُ فَلَمْ يَحْتَجِ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُشْهِدَهُمْ عَلَى إِقْرَارِهِ لِسَمَاعِهِمْ مِنْهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قِصَّةُ أَبِي قَتَادَةَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: لَا حُجَّةَ فِي قِصَّةِ أَبِي قَتَادَةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَعَلِمَ النَّبِيُّ ﷺ عَلِمَ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فَحَكَمَ عَلَيْهِ، فَهِيَ حُجَّةٌ لِلْمَذْهَبِ، يَعْنِي الصَّائِرَ إِلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فِيمَا يَقَعُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: ظَاهِرُ أَوَّلِ الْقِصَّةِ يُخَالِفُ آخِرَهَا؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْبَيِّنَةَ بِالْقَتْلِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ السَّلَبِ، ثُمَّ دَفَعَ السَّلَبَ لِأَبِي قَتَادَةَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَأَجَابَ الْكِرْمَانِيُّ بِأَنَّ الْخَصْمَ اعْتَرَفَ، يَعْنِي فَقَامَ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، وَبِأَنَّ الْمَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُعْطِي مِنْهُ مَنْ شَاءَ وَيَمْنَعُ مَنْ شَاءَ.
قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَنْحَصِرُ فِي الشَّهَادَةِ، بَلْ كُلُّ مَا كَشَفَ الْحَقَّ يُسَمَّى بَيِّنَةً.
قَوْلُهُ (وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ، شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلَايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا) هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِمَا عَلِمَ لِوُجُودِ التُّهْمَةِ؛ إِذْ لَا يُؤْمَنُ عَلَى التَّقِيِّ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ التُّهْمَةُ قَالَ: وَأَظُنُّهُ ذَهَبَ إِلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ شِهَابٍ عَنْ زُبَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: لَوْ وَجَدْتُ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ مَا أَقَمْتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ مَعِي غَيْرِي ثُمَّ سَاقَهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: وَلَا أَحْسَبُ مَالِكًا ذَهَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَلَّدَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأُمَّةَ فَضْلًا وَعِلْمًا. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ إِلَى الْأَثَرِ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: وَيَلْزَمُ مَنْ أَجَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ مُطْلَقًا أَنَّهُ لَوْ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مَسْتُورٍ لَمْ يُعْهَدْ مِنْهُ فُجُورٌ قَطُّ أَنْ يَرْجُمَهُ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ رَآهُ يَزْنِي، أَوْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَيَزْعُمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يُطَلِّقُهَا، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمَتِهِ وَيَزْعُمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَعْتِقُهَا، فَإِنَّ هَذَا الْبَابَ لَوْ فُتِحَ لَوَجَدَ كُلُّ قَاضٍ السَّبِيلَ إِلَى قَتْلِ عَدُوِّهُ وَتَفْسِيقِهِ وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُحِبُّ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلَا قُضَاةُ السُّوءِ لَقُلْتُ: إِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ فَمَا الظَّنُّ بِالْمُتَأَخِّرِ، فَيَتَعَيَّنُ حَسْمُ مَادَّةِ تَجْوِيزِ الْقَضَاءِ بِالْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ لِكَثْرَةِ مَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ مِمَّنْ لَا يُؤْمَنُ عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ (وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لِآخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ) قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَا ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَحْكُمُ بِمَا عَلِمَهُ فِيمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute