بِالشَّهَادَةِ وَبِالْإِيمَانِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَحْكَامِ يُسَمَّى خَطَأً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي حَدِيثِ: أُمِرْتْ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحَدِيثِ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِالتَّنْقِيبِ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ.
وَعَلَى هَذَا فَالْحُجَّةُ مِنَ الْحَدِيثِ ظَاهِرَةٌ فِي شُمُولِ الْخَبَرِ: الْأَمْوَالَ وَالْعُقُودَ وَالْفُسُوخَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي دَعْوَى حِلِّ الزَّوْجَةِ لِمَنْ أَقَامَ بِتَزْوِيجِهَا بِشَاهِدَيْ زُورٍ وَهُوَ يَعْلَمُ بِكَذِبِهِمَا، وَبَيْنَ مَنِ ادَّعَى عَلَى حُرٍّ أَنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَأَقَامَ بِذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ، وَهُوَ يَعْلَمُ حُرِّيَّتَهُ، فَإِذَا حَكَمَ لَهُ الْحَاكِمُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْقَوْلُ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَحِلُّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ عَلَى قَائِلَةٍ، وَلِقَاعِدَةٍ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا، وَوَافَقَهُمُ الْقَائِلُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَبْضَاعَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنْ كَانَ حَاكِمًا نَفَذَ عَلَى الْمَحْكُومِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُفْتِيًا لَمْ يَحِلَّ، فَإِنْ كَانَ الْمُفْتَى لَهُ مُجْتَهِدًا يَرَى بِخِلَافِ مَا أَفْتَاهُ بِهِ لَمْ يَجُزْ، وَإِلَّا جَازَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَوَخَّيَا الْحَقَّ جَوَازُ الْإِبْرَاءِ مِنَ الْمَجْهُولِ؛ لِأَنَّ التَّوَخِّيَ لَا يَكُونُ فِي الْمَعْلُومِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: شَنَّعُوا عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَلِأَنَّ فِيهِ صِيَانَةَ الْمَالِ وَابْتِذَالَ الْفُرُوجِ، وَهِيَ أَحَقُّ أَنْ يُحْتَاطَ لَهَا وَتُصَانَ وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِمَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأَةً فَأَبَتْ، فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ، فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ أنَّهُمَا شَهِدَا بِالزُّورِ، فَزَوِّجْنِي أَنْتَ مِنْهُ فَقَدْ رَضِيتُ، فَقَالَ: شَهِدَاكِ زَوَّجَاكِ، وَأَمْضَى عَلَيْهَا النِّكَاحَ وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَلِيٍّ، وَاحْتَجَّ الْمَذْكُورُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ بِأَنَّ الْحَاكِمَ قَضَى بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِيهِ، فَجَعَلَ الْإِنْشَاءَ تَحَرُّزًا عَنِ الْحَرَامِ، وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الْمَالِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ مَالِ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو، وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ أَمَةِ زَيْدٍ مَثَلًا مِنْ عَمْرٍو حَالَ خَوْفِ الْهَلَاكِ لِلْحِفْظِ وَحَالَ الْغَيْبَةِ، وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الصَّغِيرَةِ، وَالْفُرْقَةِ عَلَى الْعَيْنَيْنِ، فَيَجْعَلُ الْحُكْمَ إِنْشَاءً احْتِرَازًا عَنِ الحرام، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا فَلَوْ حَكَمَ بِالطَّلَاقِ لَبَقِيَتْ حَلَالًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بَاطِنًا وَلِلثَّانِي ظَاهِرًا، فَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي مِثْلُ مَا ابْتُلِيَ الْأَوَّلُ حَلَّتْ لِلثَّالِثِ، وَهَكَذَا فَتَحِلُّ لِجَمْعٍ مُتَعَدِّدٍ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَخْفَى فُحْشة، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا بِنَفَاذِهِ بَاطِنًا فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ إِلَّا لِوَاحِدٍ، انْتَهَى.
وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْجُمْهُورَ إِنَّمَا قَالُوا فِي هَذَا: تَحْرُمُ عَلَى الثَّانِي مَثَلًا إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ تَرَتَّبَ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، فَإِذَا اعْتَمَدَ الْحُكْمَ وَتَعَمَّدَ الدُّخُولَ بِهَا فَقَدِ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا، كَمَا لَوْ كَانَ الْحُكْمُ بِالْمَالِ فَأَكَلَهُ، وَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي كَانَ حُكْمُ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، وَالْفُحْشُ إِنَّمَا لَزِمَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى تَعَاطِي الْمُحَرَّمِ، فَكَانَ كَمَا لَوْ زَنَوْا ظَاهِرًا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: شَرْطُ صِحَّةِ الْحُكْمِ وُجُودُ الْحُجَّةِ وَإِصَابَةُ الْمَحَلِّ، وَإِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ شُهُودَ زُورٍ لَمْ تَحْصُلِ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْحُكْمِ هِيَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ إِظْهَارُ الْحَقِّ، وَحَقِيقَةَ الْحُكْمِ إِنْفَاذُ ذَلِكَ، وإذا كَانَ الشُّهُودُ كَذَبَةً لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمْ حَقًّا، قَالَ: فَإِنِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، وَهِيَ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ فِي عِلْمِهِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ، فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ فَقَدِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَوْ قُلْنَا: لَا يَنْفُذُ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لَلَزِمَ إِبْطَالُ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ؛ لِأَنَّ صِيَانَةَ الْحُكْمِ عَنِ الْإِبْطَالِ مَطْلُوبَةٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ عَلَى مُجْتَهِدٍ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُهُ صِيَانَةً لِلْحُكْمِ. وَأَجَابَ ابْنُ السَّمْعَانِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ لِلنُّفُوذِ، وَلِهَذَا لَا يَأْثَمُ الْقَاضِي، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ نُفُوذُ الْقَضَاءِ حَقِيقَةً فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ صِيَانَةُ الْقَضَاءِ عَنِ الْإِبْطَالِ إِذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute