للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

أَنَّ حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: أَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَاكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؟ قَالَ: فَحَلَفْتُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: لَوْ كَانَ لَكَ رَاعِي غَنَمٍ ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا لَرَأَيْتَ أَنْ قَدْ ضَيَّعَ، فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ: وَفِيهِ قَوْلُ عُمَرَ فِي جَوَابِ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ دِينَهُ.

قَوْلُهُ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ إِلَخْ فِي رِوَايَةِ سَالِمٍ: إِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدِ اسْتَخْلَفَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَعْدِلْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَحَدًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَظُنُّهُ ابْنَ عُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِعُمَرَ أَلَا تَعْهَدُ؟ قَالَ: أَيُّ ذَلِكَ آخُذُ فَقَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ وَهُوَ مُشْكِلٌ وَيُزِيلُهُ أَنَّ دَلِيلَ التَّرْكِ مِنْ فِعْلِهِ ﷺ وَاضِحٌ، وَدَلِيلُ الْفِعْلِ يُؤْخَذُ مِنْ عَزْمِهِ الَّذِي حَكَتْهُ عَائِشَةُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَهُوَ لَا يَعْزِمُ إِلَّا عَلَى جَائِزٍ، فَكَأَنَّ عُمَرَ قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ عَزَمَ ﷺ عَلَى الِاسْتِخْلَافِ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَفَهِمَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَزْمِهِ الْجَوَازَ فَاسْتَعْمَلَهُ، وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى قَبُولِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ.

قُلْتُ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ عُمَرَ رَجَحَ عِنْدَهُ التَّرْكُ، لِأَنَّهُ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ ﷺ بِخِلَافِ الْعَزْمِ وَهُوَ يُشْبِهُ عَزْمَهُ ﷺ عَلَى التَّمَتُّعِ فِي الْحَجِّ، وَفِعْلَهُ الْإِفْرَادَ فَرُجِّحَ الْإِفْرَادُ.

قَوْلُهُ: (فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فقَالَ رَاغِبٌ وَرَاهِبٌ) قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الَّذِينَ أَثْنَوْا عَلَيْهِ إِمَّا رَاغِبٌ فِي حُسْنِ رَأْيِي فِيهِ وَتَقَرُّبِي لَهُ، وَإِمَّا رَاهِبٌ مِنْ إِظْهَارِ مَا يُضْمِرُهُ مِنْ كَرَاهَتِهِ، أَوِ الْمَعْنَى رَاغِبٌ فِيمَا عِنْدِي وَرَاهِبٌ مِنِّي، أَوِ الْمُرَادُ النَّاسُ رَاغِبٌ فِي الْخِلَافَةِ وَرَاهِبٌ مِنْهَا، فَإِنْ وَلَّيْتُ الرَّاغِبَ فِيهَا خَشِيتَ أَنْ لَا يُعَانَ عَلَيْهَا، وَإِنْ وَلَّيْتُ الرَّاهِبَ مِنْهَا خَشِيتُ أَنْ لَا يَقُومَ بِهَا. وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ تَوْجِيهًا آخَرَ: إِنَّهُمَا وَصْفَانِ لِعُمَرَ أَيْ رَاغِبٌ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ، رَاهِبٌ مِنْ عِقَابِهِ، فَلَا أُعَوِّلُ عَلَى ثَنَائِكُمْ وَذَلِكَ يَشْغَلُنِي عَنِ الْعِنَايَةِ بِالِاسْتِخْلَافِ عَلَيْكُمْ.

قَوْلُهُ: وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا أَيْ مِنَ الْخِلَافَةِ (كَفَافًا) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ أَيْ مَكْفُوفًا عَنِّي شَرُّهَا وَخَيْرُهَا. وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: لَا لِي وَلَا عَلَيَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَحْوُ هَذَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ فِي مَنَاقِبِهِ فِي مُرَاجَعَتِهِ لِأَبِي مُوسَى فِيمَا عَمِلُوهُ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: لَوَدِدْتُ لَوْ أَنَّ حَظِّي مِنْهَا الْكَفَافُ.

قَوْلُهُ: (لَا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَمَيِّتًا) فِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ: أَتَحَمَّلُ أَمْرَكُمْ حَيًّا وَمَيِّتًا وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاتُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ عُذْرَهُ فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ فِيهِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حَيْثُ مَثَّلَ لَهُ أَمْرَ النَّاسِ بِالْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي خَصَّ الْأَمْرَ بِالسِّتَّةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا مِنْهُمْ وَاحِدًا، وَإِنَّمَا خَصَّ السِّتَّةَ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَمْرَانِ كَوْنُهُ مَعْدُودًا فِي أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَاتَ النَّبِيُّ ﷺ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالثَّانِي الْحَدِيثُ الْمَاضِي فِي مَنَاقِبِ عُثْمَانَ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَأَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ أَبْزَى، عَنْ عُمَرَ قَالَ: هَذَا الْأَمْرَ فِي أَهْلِ بَدْرٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، ثُمَّ فِي أَهْلِ أُحُدٍ. ثُمَّ فِي كَذَا، وَلَيْسَ فِيهَا لِطَلِيقٍ وَلَا لِمُسْلِمَةِ الْفَتْحِ شَيْءٌ. وَهَذَا مَصِيرٌ مِنْهُ إِلَى اعْتِبَارِ تَقْدِيمِ الْأَفْضَلِ فِي الْخِلَافَةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ عُمَرَ سَلَكَ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَسْلَكًا مُتَوَسِّطًا خَشْيَةَ الْفِتْنَةِ فَرَأَى أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ أَضْبَطُ لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَجَعَلَ الْأَمْرَ مَعْقُودًا مَوْقُوفًا عَلَى السِّتَّةِ لِئَلَّا يَتْرُكَ الِاقْتِدَاءَ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ، فَأَخَذَ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ طَرَفًا وَهُوَ تَرْكُ التَّعْيِينِ، وَمِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ طَرَفًا، وَهُوَ الْعَقْدُ لِأَحَدِ السِّتَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ انْتَهَى. مُلَخَّصًا.

قَالَ: وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْإِمَامِ الْمُتَوَلِّي لِغَيْرِهِ بَعْدَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِإِطْبَاقِ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ مَعَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا عَهِدَهُ أَبُو بَكْرٍ، لِعُمَرَ، وَكَذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَبُولِ عَهْدِ عُمَرَ إِلَى السِّتَّةِ، قَالَ: وَهُوَ شَبِيهٌ بِإِيصَاءِ الرَّجُلِ عَلَى وَلَدِهِ لِكَوْنِ نَظَرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ أَتَمَّ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْإِمَامُ، انْتَهَى.