للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لَا نَسْخَ، بَلِ الْمُرَادُ بِحَقِّ تُقَاتِهِ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا مَعَ الْعَجْزِ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمَكْرُوهَ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَشَمَلَ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فَاجْتَنِبُوهُ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ، وَيَجِيءُ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ وَجَوَابُهُ فِي الْجَانِبِ الْآخِرِ وَهُوَ الْأَمْرُ. وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: النَّهْيُ يَكُونُ تَارَةً مَعَ الْمَانِعِ مِنَ النَّقِيضِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ، وَتَارَةً لَا مَعَهُ وَهُوَ الْمَكْرُوهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُهُمَا. وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ، لِأَنَّ التَّأْكِيدَ فِي الْفِعْلِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَكَذَا عَكْسُهُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَنْ قَالَ الْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ لَمْ يُرِدِ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ وَهُوَ الْإِذْنُ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَلَا عَدَمَهُ، وَقِيلَ يَقْتَضِيهِ وَقِيلَ يَتَوَقَّفُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ ; وَحَدِيثُ الْبَابِ قَدْ يُتَمَسَّكُ بِهِ لِذَلِكَ لِمَا فِي سَبَبِهِ أَنَّ السَّائِلَ قَالَ فِي الْحَجِّ: أَكُلُّ عَامٍ؟ فَلَوْ كَانَ مُطْلَقُهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَوْ عَدَمَهُ لَمْ يَح سُنِ السُّؤَالُ وَلَا الْعِنَايَةُ بِالْجَوَابِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّمَا سَأَلَ اسْتِظْهَارًا وَاحْتِيَاطًا، وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّكْرَارَ إِنَّمَا احْتُمِلَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ قَصْدٌ فِيهِ تَكْرَارٌ فَاحْتَمَلَ عِنْدَ السَّائِلِ التَّكْرَارُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ لَا مِنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ قَالَ بِإِيجَابِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ إِذَا كَانَ مَعْنَاهُ تَكْرَارَ قَصْدِ الْبَيْتِ بِحُكْمِ اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْإِجْمَاعِ أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ إِلَّا مَرَّةً فَيَكُونُ الْعَوْدُ إِلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الْعُمْرَةِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْأَحْكَامِ؛ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ. وَأَجَابَ مَنْ مَنَعَ بِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَثْبُتَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ.

وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى النَّهْيِ عَنْ كَثْرَةِ الْمَسَائِلِ وَالتَّعَمُّقِ فِي ذَلِكَ، قَالَ الْبَغَوِيُّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ الْمَسَائِلُ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ الْآيَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ تَتَنَزَّلُ أَسْئِلَةُ الصَّحَابَةِ عَنِ الْأَنْفَالِ وَالْكَلَالَةِ وَغَيْرِهِمَا.

ثَانِيهُمَا: مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالتَّكَلُّفِ وَهُوَ الْمُرَادُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُؤَيِّدُهُ وُرُودُ الزَّجْرِ فِي الْحَدِيثِ عَنْ ذَلِكَ وَذَمُّ السَّلَفِ، فَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ نَهَى عَنِ الْأُغْلُوطَاتِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هِيَ شِدَادُ الْمَسَائِلِ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ أَيْضًا: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْرِمَ عَبْدَهُ بَرَكَةَ الْعِلْمِ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْمَغَالِيطَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ أَقَلَّ النَّاسِ عِلْمًا وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْمِرَاءُ فِي الْعِلْمِ يُذْهِبُ بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ قَلْبِ الرَّجُلِ وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ كَانَ النَّهْيُ عَنِ السُّؤَالِ فِي الْعَهْدِ النَّبَوِيِّ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَنْزِلَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أُمِنَ ذَلِكَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّقْلِ عَنِ السَّلَفِ بِكَرَاهَةِ الْكَلَامِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ قَالَ وَإِنَّهُ لَمَكْرُوهٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا إِلَّا لِلْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ فَرَّعُوا وَمَهَّدُوا فَنَفَعَ اللَّهُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِذَلِكَ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَدُرُوسِ الْعِلْمِ انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْكَرَاهَةِ لِلْعَالِمِ إِذَا شَغَلَهُ ذَلِكَ عَمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ، وَكَانَ يَنْبَغِي تَلْخِيصُ مَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ مُجَرَّدًا عَمَّا يَنْدُرُ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُخْتَصَرَاتِ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِالْأَهَمِّ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ عَاجِلًا عَمَّا لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِفِعْلِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، فَاجْعَلُوا اشْتِغَالَكُمْ بِهَا عِوَضًا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالسُّؤَالِ عَمَّا لَمْ يَقَعْ. فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَبْحَثَ عَمَّا جَاءَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي تَفَهُّمِ ذَلِكَ وَالْوُقُوفِ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ. ثُمَّ يَتَشَاغَلُ بِالْعَمَلِ بِهِ فَإِنْ كَانَ مِنَ الْعِلْمِيَّاتِ يَتَشَاغَلُ بِتَصْدِيقِهِ وَاعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي الْقِيَامِ بِهِ فِعْلًا وَتَرْكًا، فَإِنْ وَجَدَ وَقْتًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَصْرِفَهُ فِي الِاشْتِغَالِ بِتَعَرُّفِ حُكْمٍ مَا سَيَقَعُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَلِ بِهِ أَنْ لَوْ وَقَعَ، فَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْهِمَّةُ مَصْرُوفَةً عِنْدَ سَمَاعِ