فَبِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيِ الْكَلَامُ السِّرُّ وَمِنْهُ الْمُسَارَرَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ كَأَخِي فَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَخِي السِّرَارِ كَصَاحِبِ السِّرَارِ قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. وَنَقَلَ عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَعْنَى كَالسِّرَارِ، وَلَفْظُ أَخِي صِلَةٌ، قَالَ: وَالْمَعْنَى كَالْمُنَاجَى سِرًّا انْتَهَى. وَقَالَ صَاحِبُ الْفَائِقِ: لَوْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ كَأَخِي السِّرَارِ كَالْمُسَارِرِ لَكَانَ وَجْهًا وَالْكَافُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَعَلَى مَا مَضَى تَكُونُ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ.
وَقَوْلُهُ لَا يَسْمَعُهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ كَأَخِي السِّرَارِ أَيْ يَخْفِضُ صَوْتَهُ وَيُبَالِغُ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى اسْتِفْهَامِهِ عَنْ بَعْضِ كَلَامِهِ. وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: الضَّمِيرُ فِي يَسْمَعُهُ لِلْكَافِ إِنْ جُعِلَتْ صِفَةً لِلْمَصْدَرِ وَهُوَ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ عَلَى الْوَصْفِيَّةِ، فَإِنْ أُعْرِبَتْ حَالًا فَالضَّمِيرُ لَهَا أَيْضًا إِنْ قُدِّرَ مُضَافًا وَلَيْسَ قَوْلُهُ لَا يَسْمَعُهُ حَالًا مِنَ النَّبِيِّ ﷺ؛ لِرَكَاكَةِ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَدِيثُ السَّادِسُ: حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَقَدْ مَضَى شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا فَكَرِهَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَعَابَ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ.
قَالَ الرَّهْطُ: قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ، قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ ﷺ فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ﴾ الْآيَةَ، فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَلِكَ حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ، هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ.
ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ، فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ - وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ - تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ. جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكِ، وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ: تَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا، وَإِلَّا فَلَا تُكَلِّمَانِي فِيهَا. فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ: نَعَمْ، فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ، وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ، هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالَا. نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا.
الْحَدِيثُ السَّابِعُ: حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ فِي قِصَّةِ الْعَبَّاسِ، وَعَلِيٍّ وَمُنَازَعَتِهِمَا عِنْدَ عُمَرَ فِي صَدَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي فَرْضِ الْخُمُسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُنَا بَيَانُ كَرَاهِيَةِ التَّنَازُعِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عُثْمَانَ وَمَنْ مَعَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، اقْضِ بَيْنَهُمَا، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ فَإِنَّ الظَّنَّ بِهِمَا أَنَّهُمَا لَمْ يَتَنَازَعَا إِلَّا وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُسْتَنَدٌ فِي أَنَّ الْحَقَّ بِيَدِهِ دُونَ الْآخَرِ، فَأَفْضَى ذَلِكَ بِهِمَا إِلَى الْمُخَاصَمَةِ ثُمَّ الْمُحَاكَمَةِ الَّتِي لَوْلَا التَّنَازُعُ لَكَانَ اللَّائِقُ بِهِمَا خِلَافَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ اتَّئِدُوا بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ أَيِ اسْتَمْهِلُوا، وَقَوْلُهُ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ بِحَذْفِ الْبَاءِ وَهُوَ جَائِزٌ. وَقَوْلُهُ مَا احْتَازَهَا بِالْمُهْمَلَةِ ثُمَّ الزَّايِ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ بِالْمُعْجَمَةِ ثُمَّ الرَّاءِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ وَكَانَ يُنْفِقُ ولِلْكُشْمِيهَنِيِّ فَكَانَ بِالْفَاءِ وَهُوَ أَوْلَى، وَقَوْلُهُ فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ ثُمَّ أَقْبَلَ وَقَوْلُهُ تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا هَكَذَا هُنَا وَقَعَ بِالْإِبْهَامِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي شَرْحِ الرِّوَايَةِ الْمَاضِيَةِ فِي فَرْضِ الْخُمُسِ أَنَّ تَفْسِيرَ ذَلِكَ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَخَلَتِ الرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنْ ذَلِكَ إِبْهَامًا وَتَفْسِيرًا، وَيُؤْخَذُ مِمَّا سَأَذْكُرُهُ عَنِ الْمَازِرِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ تَأْوِيلِ كَلَامِ الْعَبَّاسِ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ مَا تَرْجَمَ لَهُ مِنْ كَرَاهِيَةِ التَّنَطُّعِ وَالتَّنَازُعِ لِإِشَارَتِهِ إِلَى ذَمِّ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْوِصَالِ بَعْدَ النَّهْيِ، وَلِإِشَارَةِ عَلِيٍّ إِلَى ذَمِّ مَنْ غَلَا فِيهِ فَادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَصَّهُ بِأُمُورٍ مِنْ عِلْمِ الدِّيَانَةِ دُونَ غَيْرِهِ ; وَإِشَارَتُهُ ﷺ إِلَى ذَمِّ مَنْ شَدَّدَ فِيمَا تَرَخَّصَ فِيهِ، وَفِي قِصَّةِ بَنِي تَمِيمٍ ذَمُّ التَّنَازُعِ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّشَاجُرِ وَنِسْبَةُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ إِلَى قَصْدِ مُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّ فِيهِ إِشَارَةً إِلَى ذَمِّ كُلِّ حَالَةٍ تَئُولُ بِصَاحِبِهَا إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ أَوِ الْمُعَادَاةِ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ إِشَارَةٌ إِلَى ذَمِّ التَّعَسُّفِ فِي الْمَعَانِي الَّتِي خَشِيَتْهَا مِنْ قِيَامِ أَبِي بَكْرٍ مَقَامَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
قَالَ ابْنُ التِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ اسْتَبَّا أَيْ نَسَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ إِلَى أَنَّهُ ظَلَمَهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِقَوْلِهِ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الظَّالِمِ قَالَ: وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَظْلِمُ النَّاسَ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا تَأَوَّلَهُ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ عَلِيًّا سَبَّ الْعَبَّاسَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صِنْوُ أَبِيهِ، وَلَا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَبَّ عَلِيًّا بِغَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ فَضْلَهُ وَسَابِقَتَهُ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا اللَّفْظُ لَا يَلِيقُ بِالْعَبَّاسِ وَحَاشَا عَلِيًّا مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ سَهْوٌ مِنَ الرُّوَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ