للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَوْلُهُ: وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ) قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ الرَّأْيُ التَّفَكُّرُ، وَالْقِيَاسُ الْإِلْحَاقُ، وَقِيلَ الرَّأْيُ أَعَمُّ لِيَدْخُلَ فِيهِ الِاسْتِحْسَانُ وَنَحْوُهُ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْأَخِيرَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الَّذِي أَوْرَدَهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْعِلْمُ مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ وَمَا لَمْ يَجِئْ عَنْهُمْ فَلَيْسَ بِعِلْمٍ وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَيَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَا يَزَالُ النَّاسُ مُشْتَمِلِينَ بِخَيْرٍ مَا أَتَاهُمُ الْعِلْمُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَأَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَتَاهُمُ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ أَصَاغِرِهِمْ وَتَفَرَّقَتْ أَهْوَاؤُهُمْ هَلَكُوا وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ هُوَ الْعِلْمُ الْمَوْرُوثُ، وَمَا أَحْدَثَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ هُوَ الْمَذْمُومُ، وَكَانَ السَّلَفُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ فَيَقُولُونَ لِلسُّنَّةِ عِلْمٌ وَلِمَا عَدَاهَا رَأْيٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ عَنِ النَّبِيِّ ثُمَّ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ، وَعَنْهُ مَا جَاءَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَهُوَ مِنَ السُّنَّةِ وَمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ سُنَّةٌ لَمْ أَدْفَعْهُ، وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ لِيَكُنِ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ الْأَثَرَ وَخُذُوا مِنَ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَكُمُ الْخَبَرَ.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّأْيَ إِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا لِلنَّقْلِ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ عِلْمٍ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمَذْكُورُ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ بَعْدَ فَقْدِ الْعِلْمِ أَنَّ الْجُهَّالَ يُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ.

قَوْلُهُ (لِقَوْلِهِ) فِي رِوَايَةِ الْمُسْتَمْلِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ، عَنِ الْمُهَلَّبِ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّمَا سَكَتَ النَّبِيُّ فِي أَشْيَاءَ مُعْضِلَةٍ لَيْسَتْ لَهَا أُصُولٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ اطِّلَاعِ الْوَحْيِ وَإِلَّا فَقَدْ شَرَعَ لِأُمَّتِهِ الْقِيَاسَ، وَأَعْلَمَهُمْ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، حَيْثُ قَالَ - لِلَّتِي سَأَلَتْهُ: هَلْ تَحُجُّ عَنْ أُمِّهَا؟ -: فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ تَشْبِيهُ مَا لَا حُكْمَ فِيهِ بِمَا فِيهِ حُكْمٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ شَبَّهَ الْحُمُرَ بِالْخَيْلِ فَأَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ الْحُمُرِ بِالْآيَةِ الْجَامِعَةِ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ إِلَى آخِرِهَا. كَذَا قَالَ: وَنَقَلَ ابْنُ التِّينِ، عَنِ الدَّاوُدِيِّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ النَّفْيِ حُجَّةٌ فِي الْإِثْبَاتِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْمَنْصُوصِ، بَلْ فِيهِ إِذْنٌ فِي الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الَّذِي قَالَ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ إِلَى أَنْ قَالَ ; فَلَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ. وَقَالَ: لَمَّا رَأَى شَبَهًا بِزَمْعَةَ، احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ.

ثُمَّ ذَكَرَ آثَارًا تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْقِيَاسِ، وَتَعَقَّبَهَا ابْنُ التِّينِ بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُرِدِ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ تَرَكَ الْكَلَامَ فِي أَشْيَاءَ وَأَجَابَ بِالرَّأْيِ فِي أَشْيَاءَ، وَقَدْ بَوَّبَ لِكُلِّ ذَلِكَ بِمَا وَرَدَ فِيهِ، وَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ بَابَيْنِ: بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ، وَذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ، وَحَدِيثَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى. وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا فَهِمَهُ الْمُهَلَّبُ، وَالدَّاوِدِيُّ، ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ الْخِلَافَ هَلْ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ. ثَالِثُهَا: فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَحْيِ مِنْ مَنَامٍ وَشِبْهِهِ. وَنَقَلَ أَنْ لَا نَصَّ لِمَالِكٍ فِيهِ. قَالَ: وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأُمِّ وَذَكَرَ أَنَّ حُجَّةَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يَسُنَّ شَيْئًا إِلَّا بِأَمْرٍ، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِوَحْيٍ يُتْلَى عَلَى النَّاسِ، وَإِمَّا بِرِسَالَةٍ عَنِ اللَّهِ أَنِ افْعَلْ كَذَا.

قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ الْآيَةَ، فَالْكِتَابُ مَا يُتْلَى وَالْحِكْمَةُ السُّنَّةُ، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ تِلَاوَةٍ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَيْ بِوَحْيِهِ، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ لَابِسٌ الْجُبَّةَ، فَسَكَتَ حَتَّى جَاءَهُ الْوَحْيُ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ أَجَابَهُ. وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ أَنَّ عِنْدَهُ كِتَابًا فِي الْعُقُولِ نَزَلَ بِهِ الْوَحْيُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ أَحَدِ التَّابِعِينَ مِنْ ثِقَاتِ الشَّامِيِّينَ كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ