شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبْهَمٍ، قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيَفْهَمَ السَّائِلُ وَهَذَا أَوْضَحُ فِي الْمُرَادِ. ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الَّذِي قَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ اللِّعَانِ
وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي ذَكَرَتْ أَنَّ أُمَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَرِيبًا أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: التَّشْبِيهُ وَالتَّمْثِيلُ هُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَقَدِ احْتَجَّ الْمُزَنِيُّ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ، قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ إِبْرَاهِيمُ النِّظَامُ وَتَبِعَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِمَّنْ يُنْسَبُ إِلَى الْفِقْهِ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ. وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْجَمَاعَةُ هُوَ الْحُجَّةُ، فَقَدْ قَاسَ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَتَعَقَّبَ بَعْضُهُمُ الْأَوَّلِيَّةَ الَّتِي ادَّعَاهَا ابْنُ بَطَّالٍ بِأَنَّ إِنْكَارَ الْقِيَاسِ ثَبَتَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمِنَ التَّابِعِينَ عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مِنْ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: عَقْدُ هَذَا الْبَابِ وَمَا فِيهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مَذْمُومًا. لَكِنْ لَوْ قَالَ مَنْ شَبَّهَ أَمْرًا مَعْلُومًا لَوَافَقَ اصْطِلَاحَ أَهْلِ الْقِيَاسِ، قَالَ: وَأَمَّا الْبَابُ الْمَاضِي الْمُشْعِرُ بِذَمِّ الْقِيَاسِ وَكَرَاهَتِهِ، فَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى نَوْعَيْنِ: صَحِيحٌ وَهُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمِيعِ الشَّرَائِطِ، وَفَاسِدٌ وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَالْمَذْمُومُ هُوَ الْفَاسِدُ، وَأَمَّا الصَّحِيحُ فَلَا مَذَمَّةَ فِيهِ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ انْتَهَى.
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ شَرْطَ مَنْ لَهُ أَنْ يَقِيسَ فَقَالَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ، وَيَسْتَدِلَّ عَلَى مَا احْتَمَلَ التَّأْوِيلَ بِالسُّنَّةِ وَبِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا فِي السُّنَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَإِجْمَاعُ النَّاسِ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ. قَالَ: وَلَا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ، وَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقِيسَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِمَا مَضَى قَبْلَهُ مِنَ السُّنَنِ وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعِ النَّاسِ وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَلِسَانِ الْعَرَبِ وَيَكُونَ صَحِيحَ الْعَقْلِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُشْتَبِهَاتِ وَلَا يَعْجَلَ، وَيَسْتَمِعَ مِمَّنْ خَالَفَهُ لِيَتَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى غَفْلَةٍ إِنْ كَانَتْ، وَأَنْ يَبْلُغَ غَايَةَ جَهْدِهِ وَيُنْصِفَ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مِنْ أَيْنَ قَالَ مَا قَالَ. وَالِاخْتِلَافُ عَلَى وَجْهَيْنِ: فَمَا كَانَ مَنْصُوصًا لَمْ يَحِلَّ فِيهِ الِاخْتِلَافُ عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ يُدْرَكُ قِيَاسًا فَذَهَبَ الْمُتَأَوِّلُ أَوِ الْقَائِسُ إِلَى مَعْنًى يُحْتَمَلُ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ، لَمْ أَقُلْ أَنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ ضِيقَ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ، وَإِذَا قَاسَ مَنْ لَهُ الْقِيَاسُ فَاخْتَلَفُوا، وَسِعَ كُلًّا أَنْ يَقُولَ بِمَبْلَغِ اجْتِهَادِهِ، وَلَمْ يَسْعَهُ اتِّبَاعُ غَيْرِهِ فِيمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - فِي بَيَانِ الْعِلْمِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْفَصْلَ - قَدْ أَتَى الشَّافِعِيُّ ﵀ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَشِفَاءٌ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ: الْقُرْآنُ هُوَ الْأَصْلُ، فَإِنْ كَانَتْ دَلَالَتُهُ خَفِيَّةً نُظِرَ فِي السُّنَّةِ، فَإِنْ بَيَّنَتْهُ وَإِلَّا فَالْجَلِيُّ مِنَ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّلَالَةُ مِنْهَا خَفِيَّةً نُظِرَ فِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا رَجَّحَ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَمِلَ بِمَا يُشْبِهُ نَصَّ الْكِتَابِ ثُمَّ السُّنَّةِ ثُمَّ الِاتِّفَاقِ ثُمَّ الرَّاجِحِ كَمَا سُقْتُهُ عَنْهُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ أَنَسٍ لَا يَأْتِي عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْفِتَنِ وَأَنْشَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيِّ النَّحْوِيِّ الْمُقْرِئِ بِرِوَايَةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ مِنْ أَبْيَاتٍ طَوِيلَةٍ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ:
لَا تَكُنْ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَا … رًا كَمَا قَدْ قَرَأْتَ فِي الْقُرْآنِ
إِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ فِي كُلِّ أَمْرٍ … عِنْدَ أَهْلِ الْعُقُولِ كَالْمِيزَانِ
لَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي الدِّينِ إِلَّا … لِفَقِيهٍ لِدِينِهِ صَوَّانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute