وَقِيلَ مَعْنَى وَحَّدْتُهُ: عَلِمْتُهُ وَاحِدًا، وَقِيلَ: سَلَبْتُ عَنْهُ الْكَيْفِيَّةَ وَالْكَمِّيَّةَ فَهُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا انْقِسَامَ لَهُ، وَفِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ، فِي إِلَهِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ وَتَدْبِيرِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ، وَلَا خَالِقَ غَيْرُهُ. وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: تَضَمَّنَتْ تَرْجَمَةُ الْبَابِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَشْيَاءَ مُؤَلَّفَةٍ، وَذَلِكَ يَرُدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ جِسْمٌ، كَذَا وَجَدْتُ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ الْمُشَبِّهَةَ، وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي الْمَقَالَاتِ أَنَّهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ حَتَّى نُسِبُوا إِلَى التَّعْطِيلِ، وَثَبَتَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: بَالَغَ جَهْمٌ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ حَتَّى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: الْجَهْمِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ يَنْتَسِبُونَ إِلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ مُقَدَّمِ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ: أَنْ لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا، وَهُمُ الْجَبْرِيَّةُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَمَاتَ مَقْتُولًا فِي زَمَنِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ انْتَهَى.
وَلَيْسَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مَذْهَبُ الْجَبْرِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا الَّذِي أَطْبَقَ السَّلَفَ عَلَى ذَمِّهِمْ بِسَبَبِهِ إِنْكَارُ الصِّفَاتِ. حَتَّى قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورِ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ التَّمِيمِيُّ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ أَنَّ رُءُوسَ الْمُبْتَدِعَةِ أَرْبَعَةٌ إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْجَهْمِيَّةُ أَتْبَاعُ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ الَّذِي قَالَ: بِالْإِجْبَارِ وَالِاضْطِرَارِ إِلَى الْأَعْمَالِ، وَقَالَ: لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الْفِعْلُ إِلَى الْعَبْدِ مَجَازًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا أَوْ مُسْتَطِيعًا لِشَيْءٍ، وَزَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ حَادِثٌ، وَامْتَنَعَ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ شَيْءٌ أَوْ حَيٌّ أَوْ عَالِمٌ أَوْ مُرِيدٌ، حَتَّى قَالَ: لَا أَصِفُهُ بِوَصْفٍ يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِهِ، قَالَ: وَأَصِفُهُ بِأَنَّهُ خَالِقٌ وَمُحْيٍ وَمُمِيتٌ وَمُوَحَّدٌ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ الثَّقِيلَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ خَاصَّةٌ بِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَادِثٌ، وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ مُتَكَلِّمًا بِهِ، قَالَ: وَكَانَ جَهْمٌ يَحْمِلُ السِّلَاحَ وَيُقَاتِلُ، وَخَرَجَ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَهُوَ بِمُهْمَلَةٍ وَجِيمٍ مُصَغَّرٌ، لَمَّا قَامَ عَلَى نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ عَامِلِ بَنِي أُمَيَّةَ بِخُرَاسَانَ، فَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ قَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحَوْزَ وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَأَبُوهُ بِمُهْمَلَةٍ وَآخِرُهُ زَايٌ وَزْنُ أَعْوَرَ، وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَةِ نَصْرٍ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ: بَلَغَنِي أَنَّ جَهْمًا كَانَ يَأْخُذُ عَنِ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ وَهُوَ أَمِيرُ الْعِرَاقِ خَطَبَ فَقَالَ: إِنِّي
مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا. قُلْتُ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَكَأَنَّ الْكِرْمَانِيَّ انْتَقَلَ ذِهْنُهُ مِنَ الْجَعْدِ إِلَى الْجَهْمِ؛ فَإِنَّ قَتْلَ جَهْمٍ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، وَنَقَلَ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
وَلَا أَقُول بِقَوْلِ الْجَهْمِ أَنَّ لَهُ قَوْلًا … يُضَارِعُ قَوْلَ الشِّرْكِ أَحْيَانًا
وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ إِنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَنَسْتَعْظِمُ أَنْ نَحْكِيَ قَوْلَ جَهْمٍ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ قَالَ: تَرَكَ جَهْمٌ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ خَلَفِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْبَلْخِيِّ قَالَ: كَانَ جَهْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَكَانَ فَصِيحًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفَاذٌ فِي الْعِلْمِ، فَلَقِيَهُ قَوْمٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ، فَقَالُوا لَهُ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ لَا يَخْرُجُ مُدَّةً، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي التَّوْحِيدِ، وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا قُدَامَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَلْخِيَّ يَقُولُ: كَانَ جَهْمٌ عَلَى مَعْبَرِ تِرْمِذَ، وَكَانَ كُوفِيَّ الْأَصْلِ فَصِيحًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ وَلَا مُجَالَسَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقِيلَ لَهُ: صِفْ لَنَا رَبَّكَ، فَدَخَلَ الْبَيْتَ لَا يَخْرُجُ كَذَا، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ: هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَخْلُو مِنْهُ شَيْءٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كَلَامُ جَهْمٍ صِفَةٌ بِلَا مَعْنًى، وَبِنَاءٌ بِلَا أَسَاسٍ، وَلَمْ يُعَدَّ قَطُّ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَالَ: تَعْتَدُّ امْرَأَتُهُ، وَأَوْرَدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute