للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ بِتَعَلُّمِ الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِنَّمَا أَسْلَمَ لِوُجُودِ دَلِيلٍ مَا، فَأَسْلَمَ بِسَبَبِ وُضُوحِهِ لَهُ، فَالْكَثِيرُ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا طَوْعًا مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ اسْتِدْلَالٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِأَنَّ نَبِيًّا سَيُبْعَثُ وَيَنْتَصِرُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَتْ لَهُمُ الْعَلَامَاتُ فِي مُحَمَّدٍ بَادَرُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَصَدَّقُوهُ فِي كل شَيْءٍ قَالَهُ وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانَ يُؤْذَنُ لَهُ فِي الرُّجُوعِ إِلَى مَعَاشِهِ مِنْ رِعَايَةِ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَتْ أَنْوَارُ النُّبُوَّةِ وَبَرَكَاتُهَا تَشْمَلُهُمْ فَلَا يَزَالُونَ يَزْدَادُونَ إِيمَانًا وَيَقِينًا.

وَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ السَّمْعَانِيِّ أَيْضًا مَا مُلَخَّصِهِ: إِنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُ شَيْئًا، وَلَا حَظَّ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِحُكْمٍ مَا وَجَبَ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ دَعْوَةَ رُسُلِ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا كَانَتْ لِبَيَانِ الْفُرُوعِ، لَزِمَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْلَ هُوَ الدَّاعِي إِلَى اللَّهِ دُونَ الرَّسُولِ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّ وُجُودَ الرَّسُولِ وَعَدَمَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ سَوَاءٌ، وَكَفَى بِهَذَا ضَلَالًا.

وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْعَقْلَ يُرْشِدُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِإِيجَابِ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَصِحَّ إِسْلَامٌ إِلَّا بِطَرِيقِهِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ السَّمْعِيَّاتِ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ خِلَافَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي تَوَاتَرَتْ وَلَوْ بِالطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيِّ، وَلَوْ كَانَ كما يَقُولُ أُولَئِكَ لَبَطَلَتِ السَّمْعِيَّاتُ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِيهَا أَوْ أَكْثَرِهَا، بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا ثَبَتَ مِنَ السَّمْعِيَّاتِ، فَإِنْ عَقَلْنَاهُ فَبِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَإِلَّا اكْتَفَيْنَا بِاعْتِقَادِ حَقِيقَتِهِ عَلَى وَفْقِ مُرَادِ اللَّهِ ، انْتَهَى.

وَيُؤَيِّدُ كَلَامَهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ : أَنْشُدُكَ اللَّهَ، آللَّهُ أَرْسَلَكَ أَنْ نَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنْ نَدَعَ اللَّاتَ وَالْعُزَّى؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَسْلَمَ وَأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي قِصَّةِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبْسَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ، فَقَالَ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: نَبِيُّ اللَّهِ. قُلْتُ: آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: أُوَحِّدُ اللَّهَ لَا أُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا الْحَدِيثَ، وَفِي حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فِي قِصَّةِ قَتْلِهِ الَّذِي قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ، وَحَدِيثِ الْمِقْدَادِ فِي مَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَفِي كُتُبِ النَّبِيِّ إِلَى هِرَقْلَ، وَكِسْرَى وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ الدَّالَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِي دُعَائِهِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَيُصَدِّقُوهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ عَنْهُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ إِذْعَانُهُ عَنْ تَقَدُّمِ نَظَرٍ أَمْ لَا، وَمَنْ تَوَقَّفَ مِنْهُمْ نَبَّهَهُ حِينَئِذٍ عَلَى النَّظَرِ، أَوْ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ إِلَى أَنْ يُذْعِنَ أَوْ يَسْتَمِرَّ عَلَى عِنَادِهِ.

وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ: سَلَكَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا فِي إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ بِمُعْجِزَاتِ الرِّسَالَةِ؛ فَإِنَّهَا أَصْلٌ فِي وُجُوبِ قَبُولِ مَا دَعَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَقَعَ إِيمَانُ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلرُّسُلِ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ النَّجَاشِيِّ وَقَوْلَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لَهُ: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا نَعْرِفُ صِدْقَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ، وَتَلَا عَلَيْنَا تَنْزِيلًا مِنَ اللَّهِ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ فَصَدَّقْنَاهُ وَعَرَفْنَا أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْحَقُّ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ صَحِيحِهِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ، وَحَالُهُ مَعْرُوفَةٌ وَحَدِيثُهُ فِي دَرَجَةِ الْحَسَنِ.

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَاسْتَدَلُّوا بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ، فَآمَنُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَاكْتِفَاءُ غَالِبِ مَنْ أَسْلَمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي الْأَخْبَارِ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ثَبَتَ عَنْهُ بِطَرِيقِ السَّمْعِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَقْلِيدًا بَلْ هُوَ اتِّبَاعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنِ اشْتَرَطَ النَّظَرَ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ