للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْمَسْحَ فِيهِ بَدَلٌ عَنِ الْغَسْلِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ أَصْلٌ فَافْتَرَقَا، وَلَا يَرِدُ كَوْنُ مَسْحِ الْخُفِّ بَدَلًا عَنْ غَسْلِ الرِّجْلِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِيهِ ثَبَتَتْ بِالْإِجْمَاعِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَعَلَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ لِعُذْرٍ - لِأَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ وَهُوَ مَظِنَّةُ الْعُذْرِ، وَلِهَذَا مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ بَعْدَ مَسْحِ النَّاصِيَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -، قُلْنَا: قَدْ رُوِيَ عَنْهُ مَسْحُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ مَسْحٍ عَلَى الْعِمَامَةِ وَلَا تَعَرُّضٍ لِسَفَرٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَوَضَّأَ فَحَسَرَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ لَكِنَّهُ اعْتُضِدَ بِمَجِيئِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْصُولًا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ. وَفِي إِسْنَادِهِ أَبُو مَعْقِلٍ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ، فَقَدِ اعْتَضَدَ كُلٌّ مِنَ الْمُرْسَلِ وَالْمَوْصُولِ بِالْآخَرِ، وَحَصَلَتِ الْقُوَّةُ مِنَ الصُّورَةِ الْمَجْمُوعَةِ، وَهَذَا مِثَالٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّ الْمُرْسَلَ يَعْتَضِدُ بِمُرْسَلٍ آخَرَ أَوْ مُسْنَدٍ، وَظَهَرَ بِهَذَا جَوَابُ مَنْ أَوْرَدَ أَنَّ الْحُجَّةَ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ فَيَقَعُ الْمُرْسَلُ لَغْوًا، وَقَدْ قَرَّرْتُ جَوَابَ ذَلِكَ فِيمَا كَتَبْتُهُ عَلَى عُلُومِ الْحَدِيثِ لِابْنِ الصَّلَاحِ.

وَفِي الْبَابِ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ فِي صِفَةِ الْوُضُوءِ، قال: وَمَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَفِيهِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْكَارُ ذَلِكَ، قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ. وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَقْوَى بِهِ الْمُرْسَلُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ: (بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ، فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قال: السُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ بِمُؤَخَّرِ الرَّأْسِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى مُقَدَّمِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ قَرِيبًا مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فَأَدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأَقْبَلَ فَلَمْ يَكُنْ فِي ظَاهِرِهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ الْإِقْبَالَ وَالْإِدْبَارَ مِنَ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، وَلَمْ يُعَيِّنْ مَا أَقْبَلَ إِلَيْهِ وَلَا مَا أَدْبَرَ عَنْهُ، وَمَخْرَجُ الطَّرِيقَيْنِ مُتَّحِدٌ، فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَعَيَّنَتْ رِوَايَةُ مَالِكٍ الْبَدَاءَةَ بِالْمُقَدَّمِ فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ أَقْبَلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْفِعْلِ بِابْتِدَائِهِ؛ أَيْ: بَدَأَ بِقِبَلِ الرَّأْسِ، وَقِيلَ فِي تَوْجِيهِهِ غَيْرُ ذَلِكُ. وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ اسْتِيعَابُ جِهَتَيِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ لَهُ شَعْرٌ، وَالْمَشْهُورُ عَمَّنْ أَوْجَبَ التَّعْمِيمَ الْأُولَى وَاجِبَةٌ وَالثَّانِيَةَ سُنَّةٌ، وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ التَّعْمِيمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

قَوْلُهُ: (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) زَادَ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ الْآتِيَةِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَالْبَحْثُ فِيهِ كَالْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْكَعْبَ هُوَ الْعَظْمُ النَّاشِزُ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ وَالْقَدَمِ، وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ الْعَظْمُ الَّذِي فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَقَدْ أَكْثَرَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ ذَلِكَ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ الصَّحِيحُ فِي صِفَةِ الصَّفِّ فِي الصَّلَاةِ: فَرَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا إِنَّمَا رَأَى ذَلِكَ فِي حَدِيثِ قَطْعِ الْمُحْرِمِ الْخُفَّيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْإِفْرَاغُ عَلَى الْيَدَيْنِ مَعًا فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، وَأَنَّ الْوُضُوءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ بَعْضُهُ بِمَرَّةٍ وَبَعْضُهُ بِمَرَّتَيْنِ وَبَعْضُهُ بِثَلَاثٍ، وَفِيهِ مَجِيءُ الْإِمَامِ إِلَى بَيْتِ بَعْضِ رَعِيَّتِهِ وَابْتِدَاؤُهُمْ إِيَّاهُ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّ لَهُ بِهِ حَاجَةً، وَجَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ فِي إِحْضَارِ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَالتَّعْلِيمُ بِالْفِعْلِ، وَأَنَّ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لِلتَّطَهُّرِ لَا يُصَيِّرُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا لِقَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ وُهَيْبٍ وَغَيْرِهِ: ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ. . . إِلَخْ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ نِيَّةِ الِاغْتِرَافِ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يُثْبِتُهَا وَلَا مَا يَنْفِيهَا، وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو عَوَانَةَ فِي صَحِيحِهِ عَلَى جَوَازِ التَّطَهُّرِ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَتَوْجِيهُهُ أَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ، وَقَدْ أَدْخَلَ يَدَهُ لِلِاغْتِرَافِ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ وَهُوَ وَقْتُ غَسْلِهَا، وَقَالَ