أَنَّهُ الْمُثِيبُ عَلَى الْعَمَلِ، فَلَا يُضَيِّعُ لِعَامِلٍ أَحْسَنَ عَمَلًا، بَلْ يُثِيبُ الْعَامِلَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ أَضْعَافَ عَمَلِهِ.
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الرَّحْمَنَ مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّحْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَاهُ ذُو الرَّحْمَةِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَاحْتَجَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَفِيهِ: خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي. قُلْتُ: وَكَذَا حَدِيثُ الرَّحْمَةِ الَّذِي اشْتَهَرَ بِالْمُسَلْسَلِ بِالْأَوَّلِيَّةِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِلَفْظِ: الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ الْحَدِيثَ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: فَالرَّحْمَنُ ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ لِلْخَلْقِ، وَالرَّحِيمُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ وَأُورِدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ قَالَ: الرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ اسْمَانِ رَقِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَرَقُّ مِنَ الْآخَرِ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ مِثْلُهُ، وَزَادَ: فَالرَّحْمَنُ بِمَعْنَى الْمُتَرَحِّمِ، وَالرَّحِيمُ بِمَعْنَى الْمُتَعَطِّفِ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا مَعْنَى لِدُخُولِ الرِّقَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا اللُّطْفُ، وَمَعْنَاهُ الْغُمُوضُ لَا الصِّغَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ.
قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، عَنِ ابْنِ صَالِحٍ عَنْهُ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ مُقَاتِلٌ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُفَضَّلِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ نَسَبَ رَاوِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَى التَّصْحِيفِ، وَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ الرَّفِيقُ بِالْفَاءِ، وَقَوَّاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَأَوْرَدَ لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَحْيَى ثُمَّ قَالَ: وَالرَّحْمَنُ خَاصٌّ فِي التَّسْمِيَةِ عَامٌّ فِي الْفِعْلِ، وَالرَّحِيمُ عَامٌّ فِي التَّسْمِيَةِ خَاصٌّ فِي الْفِعْلِ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ، وَعَلَى أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَقَرَّ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، وَقَدْ خَصَّ الْحَلِيمِيُّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقَعُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ، كَمَا لَوْ قَالَ الطَّبَائِعِيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُصَرِّحَ بِاسْمٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى التَّجْسِيمِ مِنَ الْيَهُودِ: لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ، إِلَّا إِنْ كَانَ عَامِّيًّا لَا يَفْقَهُ مَعْنَى التَّجْسِيمِ، فَيُكْتَفَى مِنْهُ بِذَلِكَ، كَمَا فِي قِصَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي سَأَلَهَا النَّبِيُّ ﷺ: أَنْتِ مُؤْمِنَةٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَإِنَّ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا الرَّحْمَنُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ إِلَّا إِنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عِنَادًا، وَسَمَّى غَيْرَ اللَّهِ رَحْمَانًا، كَمَا وَقَعَ لِأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَلَوْ قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حَتَّى يُقِرَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ الْوَثَنِيُّ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ الصَّنَمَ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ عِبَادَةِ الصَّنَمِ.
تَنْبِيهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ أَنَّهُ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الصِّفَاتِ الْمُقَدَّسَةِ، فَيُدْخِلُ كُلَّ حَدِيثٍ مِنْهَا فِي بَابٍ، وَيُؤَيِّدُهُ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ؛ لِلْإِشَارَةِ إِلَى خُرُوجِهَا عَنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّلِ فِي تَرْكِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ جَمِيعًا، وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، وَهُوَ شَيْخُ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُبْتَدِعَةَ فَقَالَ: وَيْلَهُمْ مَاذَا يُنْكِرُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَاللَّهِ مَا فِي الْحَدِيثِ شَيْءٌ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ مِثْلُهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾، ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾، ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾، ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَمْ يَزَلْ - أَيْ سَلَّامُ بْنُ مُطِيعٍ - يَذْكُرُ الْآيَاتِ مِنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّحَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute