وَحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَجَاءَ فِي الشِّعْرِ لَكِنَّهُ شَاذٌّ، وَاسْتِعْمَالُ الْبُخَارِيِّ لَهَا دَالٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا نَفْسُ الشَّيْءِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَفَرَّقَ بَيْنَ النُّعُوتِ وَالذَّاتِ، وَقَالَ ابْنُ بُرْهَانَ: إِطْلَاقُ الْمُتَكَلِّمِينَ الذَّاتَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَهْلِهِمْ؛ لِأَنَّ ذَاتَ تَأْنِيثُ ذُو، وَهُوَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ - لَا يَصِحُّ لَهُ إِلْحَاقُ تَاءِ التَّأْنِيثِ؛ وَلِهَذَا امْتَنَعَ أَنْ يُقَالَ عَلَّامَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ الْعَالَمِينَ.
قَالَ: وَقَوْلُهُمُ الصِّفَاتُ الذَّاتِيَّةِ جَهْلٌ مِنْهُمْ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إِلَى ذَاتَ: ذَوِي، وَقَالَ التَّاجُ الْكِنْدِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْخَطِيبِ بْنِ نَبَاتَةَ فِي قَوْلِهِ كُنْهُ ذَاتَهُ ذَاتٌ، بِمَعْنَى صَاحِبَةُ تَأْنِيثِ ذُو وَلَيْسَ لَهَا فِي اللُّغَةِ مَدْلُولٌ غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِطْلَاقُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرُهُمُ الذَّاتَ بِمَعْنَى النَّفْسِ خَطَأٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ اسْتِعْمَالُهَا بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ، أَمَّا إِذَا قُطِعَتْ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى وَاسْتُعْمِلَتْ بِمَعْنَى الِاسْمِيَّةِ فَلَا مَحْذُورَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أَيْ: بِنَفْسِ الصُّدُورِ، وَقَدْ حَكَى الْمُطَرِّزِيُّ كُلُّ ذَاتٍ شَيْءٌ، وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ ذَاتًا، وَأَنْشَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ:
فَنِعْمَ ابْنُ عَمِّ الْقَوْمِ فِي ذَاتِ مَالِهِ … إِذَا كَانَ بَعْضُ الْقَوْمِ فِي مَالِهِ وَفْرُ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ذَاتُ هُنَا مُقْحَمَةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَقَدْ ذَكَرْتُ مَا فِيهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ فِي بَابِ الْعِظَةِ بِاللَّيْلِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ - أَيِ: الْفُقَهَاءُ - فِي بَابِ الْأَيْمَانِ فَإِنْ حَلَفَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقَوْلُ الْمُهَذَّبِ اللَّوْنُ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ أَعْرَاضٌ تَحِلُّ الذَّاتَ فَمُرَادُهَا بِالذَّاتِ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ذَاتٌ بِمَعْنَى حَقِيقَةٍ، قَالَ: وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُنْكَرٌ، فَقَدْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ قَالَ ثَعْلَبٌ: أَيِ الْحَالَةُ الَّتِي بَيْنَكُمْ، فَالتَّأْنِيثُ عِنْدَهُ لِلحَالَةٍ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى ذَاتَ: حَقِيقَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيْنِ الْوَصْلُ، فَالتَّقْدِيرُ: فَأَصْلِحُوا حَقِيقَةَ وَصْلِكُمْ، قَالَ: فَذَاتُ عِنْدَهُ بِمَعْنَى النَّفْسِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: ذَاتُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُنَازَعَةِ فَأُمِرُوا بِالْمُوَافَقَةِ، وَتَقَدَّمَ فِي أَوَاخِرِ النَّفَقَاتِ شَيْءٌ آخَرُ فِي مَعْنَى ذَاتِ يَدِهِ، وَأَمَّا النُّعُوتُ فَإِنَّهَا جَمْعُ نَعْتٍ وَهُوَ الْوَصْفُ، يُقَالُ: نَعَتَ فُلَانٌ نَعْتًا مِثْلُ وَصَفَهُ وَصْفًا، وَزْنُهُ وَمَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْبَحْثُ فِي إِطْلَاقِ الصِّفَةِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ التَّوْحِيدِ، وَأَمَّا الْأَسَامِي فَهِيَ جَمْعُ اسْمٍ وَتُجْمَعُ أَيْضًا عَلَى أَسْمَاءٍ.
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبَ: أَحَدُهَا يَرْجِعُ إِلَى ذَاتِهِ وَهُوَ اللَّهُ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إِلَى صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ كَالْحَيِّ، وَالثَّالِثُ يَرْجِعُ إِلَى فِعْلِهِ كَالْخَالِقِ، وَطَرِيقُ إِثْبَاتِهَا السَّمْعُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ أَنَّ صِفَاتَ الذَّاتِ قَائِمَةٌ بِهِ، وَصِفَاتَ الْفِعْلِ ثَابِتَةٌ لَهُ بِالْقُدْرَةِ وَوُجُودُ الْمَفْعُولِ بِإِرَادَتِهِ جَلَّ وَعَلَا.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ خُبَيْبٌ) بِالْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ مُصَغَّرٌ هُوَ ابْنُ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ) يُشِيرُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسَاقِ فِي الْبَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ مُسْتَوْفًى فِي الْمَغَازِي، وَتَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ فِي بَابِ هَلْ يُسْتَأْسَرُ الرَّجُلُ.
قَوْلُهُ: (فَذَكَرَ الذَّاتَ بِاسْمِهِ تَعَالَى)، أَيْ: ذَكَرَ الذَّاتَ مُتَلَبِّسًا بِاسْمِ اللَّهِ، أَوْ ذَكَرَ حَقِيقَةَ اللَّهِ بِلَفْظِ الذَّاتِ، قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ. قُلْتُ: وَظَاهِرُ لَفْظِهِ أَنَّ مُرَادَهُ أَضَافَ لَفْظَ الذَّاتِ إِلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَسَمِعَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَلَمْ يُنْكِرْهُ فَكَانَ جَائِزًا. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: قِيلَ لَيْسَ فِيهِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ذَاتُ الْإِلَهِ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالذَّاتِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ مُرَادُ الْبُخَارِيِّ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ وَذَلِكَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ غَرَضَهُ جَوَازُ إِطْلَاقِ الذَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ، انْتَهَى. وَالِاعْتِرَاضُ أَقْوَى مِنَ الْجَوَابِ، وَأَصْلُ الِاعْتِرَاضِ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ فِيمَا أَخْبَرَنِي بِهِ عَنْهُ شَيْخُنَا أَبُو الْفَضْلِ الْحَافِظُ، وَقَدْ تَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَا جَاءَ فِي الذَّاتِ، وَأَوْرَدَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute