للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

لَازِمُ الْغَيْرَةِ، وَلَازِمُ الْغَضَبِ إِرَادَةُ إِيصَالِ الْعُقُوبَةِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا ذِكْرُ النَّفْسِ، وَلَعَلَّهُ أَقَامَ اسْتِعْمَالَ أَحَدَ مَقَامَ النَّفْسِ لِتَلَازُمِهِمَا فِي صِحَّةِ اسْتِعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ كَانَ قَبْلَ هَذَا الْبَابِ، فَنَقَلَهُ النَّاسِخُ إِلَى هَذَا الْبَابِ، انْتَهَى.

وَكُلُّ هَذَا غَفْلَةٌ عَنْ مُرَادِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّ ذِكْرَ النَّفْسِ ثَابِتٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي أَوْرَدَهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقَعْ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ لَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ كَعَادَتِهِ، فَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِلَفْظِ: لَا شَيْءَ، وَفِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ بِلَفْظِ: وَلَا أَحَدَ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَلَى: أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلتَّرْجَمَةِ، وَقَدْ كَثُرَ مِنْهُ أَنْ يُتَرْجِمَ بِبَعْضِ مَا وَرَدَ فِي طُرُقِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُورِدُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَدْرُ مَوْجُودًا فِي تِلْكَ التَّرْجَمَةِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكِرْمَانِيَّ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ ابْنُ الْمُنِيرِ، فَقَالَ: تَرْجَمَ عَلَى ذِكْرِ النَّفْسِ فِي حَقِّ الْبَارِي، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِلنَّفْسِ ذِكْرٌ، فَوَجْهُ مُطَابَقَتِهِ أَنَّهُ صَدَّرَ الْكَلَامَ بِأَحَدٍ، وَأَحَدٌ الْوَاقِعُ فِي النَّفْيِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِخِلَافِ أَحَدٌ الْوَاقِعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ انْتَهَى. وَخَفِيَ عَلَيْهِ مَا خَفِيَ عَلَى الْكِرْمَانِيِّ مَعَ أَنَّهُ تَفَطَّنَ لِمِثْلِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ: قَوْلُ الْقَائِلِ مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا نَفْيُ الْأَنَاسِيِّ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ: مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدًا اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ وَمُقْتَضَى الْحَدِيثِ إِطْلَاقُهُ عَلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا صِحَّةُ الْإِطْلَاقِ مَا انْتَظَمَ الْكَلَامُ كَمَا يَنْتَظِمُ: مَا أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْ زَيْدٍ فَإِنَّ زَيْدًا مِنَ الْأَحَدِينَ بِخِلَافِ مَا أَحَدٌ أَحْسَنُ مِنْ ثَوْبِي فَإِنَّهُ لَيْسَ مُنْتَظِمًا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ مِنَ الْأَحَدِينَ.

الْحَدِيثُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: كَتَبَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ يَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ)، كَذَا لِأَبِي ذَرٍّ وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَعَلَى الثَّانِي فَيَكْتُبُ عَلَى نَفْسِهِ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: كَتَبَ، وَالْمَكْتُوبُ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَحْمَتِي إِلَخْ، وَقَوْلُهُ: وَهُوَ، أَيِ: الْمَكْتُوبُ وَضْعٌ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، أَيْ: مَوْضُوعٌ، وَوَقَعَ كَذَلِكَ فِي الْجَمْعِ لِلْحُمَيْدِيِّ بِلَفْظِ مَوْضُوعٌ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ فِيمَا أَخْرَجَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْمَذْكُورِ فِي السَّنَدِ، وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّايِ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ السُّكَّرِيُّ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ: وَضَعَ بِالْفَتْحِ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، وَرَأَيْتُهُ فِي نُسْخَةٍ مُعْتَمَدَةٍ بِكَسْرِ الضَّادِ مَعَ التَّنْوِينِ، وَقَدْ مَضَى شَرْحُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي أَوَائِلِ بَدْءِ الْخَلْقِ، وَيَأْتِي شَيْءٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِ: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ وَفِي بَابِ: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ أَوَاخِرَ الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ: عِنْدَهُ، فَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: عِنْدَ فِي اللُّغَةِ لِلْمَكَانِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحُلُولِ فِي الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّ الْحُلُولَ عَرَضٌ يَفْنَى وَهُوَ حَادِثٌ وَالْحَادِثُ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ، فَعَلَى هَذَا قِيلَ: مَعْنَاهُ أنَّهُ سَبَقَ عِلْمُهُ بِإِثَابَةِ مَنْ يَعْمَلُ بِطَاعَتِهِ، وَعُقُوبَةِ مَنْ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَتِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَلَا مَكَانَ هُنَاكَ قَطْعًا، وَقَالَ الرَّاغِبُ عِنْدَ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلْقُرْبِ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَكَانِ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الِاعْتِقَادِ، تَقُولُ: عِنْدِي فِي كَذَا كَذَا، أَيْ: أَعْتَقِدُهُ،

وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْمَرْتَبَةِ، وَمِنْهُ: ﴿أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ فَمَعْنَاهُ مِنْ حُكْمِكَ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ مَعْنَى الْعِنْدِيَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْعَرْشِ، وَأَمَّا كَتْبُهُ فَلَيْسَ لِلِاسْتِعَانَةِ لِئَلَّا يَنْسَاهُ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا كَتَبَهُ مِنْ أَجْلِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالْمُكَلَّفِينَ.

الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)، أَيْ: قَادِرٌ عَلَى أَنْ أَعْمَلَ بِهِ مَا ظَنَّ أَنِّي عَامِلٌ بِهِ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَفِي السِّيَاقِ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ. وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ جِهَةِ التَّسْوِيَةِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إِذَا سَمِعَ ذَلِكَ لَا يَعْدِلُ إِلَى ظَنِّ إِيقَاعِ الْوَعِيدِ وَهُوَ جَانِبُ الْخَوْفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ بَلْ يَعْدِلُ إِلَى ظَنِّ وُقُوعِ الْوَعْدِ. وَهُوَ جَانِبُ الرَّجَاءِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مُقَيَّدٌ بِالْمُحْتَضِرِ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ: لَا يَمُوتَنَّ