يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنْ ابْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَنَّهُمْ أَصَابُوا سَبَايَا، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَمْتِعُوا بِهِنَّ وَلَا يَحْمِلْنَ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الْعَزْلِ، فَقَالَ: مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ مَنْ هُوَ خَالِقٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ قَزَعَةَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ، فَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللَّهُ خَالِقُهَا.
قَوْلُهُ: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ كَذَا لِلْأَكْثَرِ، وَالتِّلَاوَةُ: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ﴾ إِلَخْ، وَثَبَتَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ رِوَايَةِ كَرِيمَةَ، قَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ: إِنَّ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ مُتَرَادِفَةٌ، وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ الْخَالِقَ مِنَ الْخَلْقِ، وَأَصْلُهُ التَّقْدِيرُ الْمُسْتَقِيمُ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْإِبْدَاعِ وَهُوَ إِيجَادُ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وَعَلَى التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ وَ: الْبَارِئُ مِنَ الْبُرْءِ، وَأَصْلُهُ خُلُوصُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّقَصِّي مِنْهُ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: بَرأ فُلَانٌ مِنْ مَرَضِهِ، وَالْمَدْيُونَ مِنْ دَيْنِهِ، وَمِنْهُ اسْتَبْرَأْتِ الْجَارِيَةُ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ، وَمِنْهُ بَرَأَ اللَّهُ النَّسَمَةَ، وَقِيلَ: الْبَارِئُ الْخَالِقُ الْبَرِئُ مِنَ التَّفَاوُتِ وَالتَّنَافُرِ الْمُخِلَّيْنِ بِالنِّظَامِ، وَالْمُصَوِّرُ مُبْدِعُ صُوَرَ الْمُخْتَرَعَاتِ وَمُرَتِّبُهَا بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، فَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُوجِدُهُ مِنْ أَصْلٍ وَمِنْ غَيْرِ أَصْلٍ، وَبَارِئُهُ بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ وَلَا اخْتِلَالٍ، وَمُصَوِّرُهُ فِي صُورَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا خَوَاصُّهُ وَيَتِمُّ بِهَا كَمَالُهُ، وَالثَّلَاثَةُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْخَالِقِ الْمُقَدِّرُ فَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ التَّقْدِيرِ إِلَى الْإِرَادَةِ، وَعَلَى هَذَا فَالتَّقْدِيرُ يَقَعُ أَوَّلًا، ثُمَّ الْإِحْدَاثُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُقَدَّرِ يَقَعُ ثَانِيًا، ثُمَّ التَّصْوِيرُ بِالتَّسْوِيَةِ يَقَعُ ثَالِثًا انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: الْخَالِقُ مَعْنَاهُ الَّذِي جَعَلَ الْمُبْدَعَاتِ أَصْنَافًا، وَجَعَلَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا قَدْرًا، وَالْبَارِئُ مَعْنَاهُ الْمُوجِدُ لِمَا كَانَ فِي مَعْلُومِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ قَالَ: وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَالَبُ الْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّهُ أَبْدَعَ الْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالنَّارَ وَالْهَوَاءَ لَا مِنْ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهَا الْأَجْسَامَ الْمُخْتَلِفَةَ، وَالْمُصَوِّرُ مَعْنَاهُ الْمُهَيِّئُ لِلْأَشْيَاءِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْ تَشَابُهٍ وَتَخَالُفٍ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: لَيْسَ الْخَلْقُ بِمَعْنَى الْإِبْدَاعِ إِلَّا لِلَّهِ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ﴾ وَأَمَّا الَّذِي يُوجَدُ بِالِاسْتِحَالَةِ فَقَدْ وَقَعَ لِغَيْرِهِ بِتَقْدِيرِهِ ﷾، مِثْلُ قَوْلِهِ لِعِيسَى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي﴾ وَالْخَلْقُ فِي حَقِّ غَيْرِ اللَّهِ يَقَعُ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَبِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَالْبَارِئُ أَخَصُّ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْبَرِيَّةُ الْخَلْقُ، قِيلَ: أَصْلُهُ الْهَمْزُ فَهُوَ مِنْ بَرَّأَ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْبَرِّيُّ مِنْ بَرَيْتُ الْعُودَ، وَقِيلَ: الْبَرِيَّةُ مِنَ الْبَرَى بِالْقَصْرِ وَهُوَ التُّرَابُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُوجِدُ الْخَلْقَ مِنَ الْبَرَى وَهُوَ التُّرَابُ، وَالْمُصَوِّرُ مَعْنَاهُ الْمُهَيِّئُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ وَالصُّورَةُ فِي الْأَصْلِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الشَّيْءُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمِنْهُ مَحْسُوسٌ كَصُورَةِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَمِنْهُ مَعْقُولٌ كَالَّذِي اخْتَصَّ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعَقْلِ وَالرُّؤْيَةِ، وَإِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾، ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾، ﴿هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾
قَوْلُهُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجَيَّانِيُّ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ. قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ ابْنُ رَاهْوَيْهِ لِكَوْنِهِ أَيْضًا رَوَى عَنْ عَفَّانَ، أَنَّ ابْنَ رَاهْوَيْهِ لَا يَقُولُ إِلَّا أَخْبَرَنَا، وَهُنَا ثَبَتَ فِي النُّسَخِ: حَدَّثَنَا فَتَأَيَّدَ أَنَّهُ ابْنُ مَنْصُورٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي الْعَزْلِ فِي (كِتَابِ النِّكَاحِ) مُسْتَوْفًى.
قَوْلُهُ: (وَقَالَ مُجَاهِدٌ، عَنْ قَزْعَةَ) هُوَ ابْنُ يَحْيَى، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَقْرَانِ؛ لِأَنَّ مُجَاهِدًا وهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute