أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ تَلَقَّاهَا عَنْهُ، وَمِثْلُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ الرَّفْعِ، وَلَوْ كَانَ لِمَا ذَكَرَهُ تَأْثِيرٌ لَمْ يُحْمَلْ حَدِيثُ أَحَدٍ رَوَى مِثْلَ ذَلِكَ عَلَى الرَّفْعِ أَصْلًا وَهُوَ خِلَافُ عَمَلِ الْمُحَدِّثِينَ قَاطِبَةً، فَالتَّعْلِيلُ بِذَلِكَ مَرْدُودٌ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مِنْ نِسْبَةِ التَّدَلِّي لِلْجَبَّارِ ﷿ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ التَّفْسِيرِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ وَمَنْ تَأَخَّرَ، قَالَ: وَالَّذِي قِيلَ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ دَنَا جِبْرِيلُ مِنْ مُحَمَّدٍ ﷺ فَتَدَلَّى أَيْ تَقَرَّبَ مِنْهُ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ: أَيْ تَدَلَّى فُلَانًا؛ لِأَنَّ التَّدَلِّيَ بِسَبَبِ الدُّنُوِّ، الثَّانِي تَدَلَّى لَهُ جِبْرِيلُ بَعْدَ الِانْتِصَابِ وَالِارْتِفَاعِ حَتَّى رَآهُ مُتَدَلِّيًا كَمَا رَآهُ مُرْتَفِعًا، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ حَيْثُ أَقْدَرَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَلَّى فِي الْهَوَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى شَيْءٍ وَلَا تَمَسُّكٍ بِشَيْءٍ، الثَّالِثُ: دَنَا جِبْرِيلُ فَتَدَلَّى مُحَمَّدٌ ﷺ سَاجِدًا لِرَبِّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى مَا أَعْطَاهُ، قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَنَسٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ شَرِيكٍ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الشَّنِيعَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا يُقَوِّي الظَّنَّ أَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنْ جِهَةِ شَرِيكٍ انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ الْأُمَوِيُّ فِي مَغَازِيهِ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ قَالَ دَنَا مِنْهُ رَبُّهُ، وَهَذَا سَنَدٌ حَسَنٌ وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ، ثُمَّ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ لَفْظَةٌ أُخْرَى تَفَرَّدَ بِهَا شَرِيكٌ أَيْضًا لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَعَلَا بِهِ - يَعْنِي جِبْرِيلَ - إِلَى الْجَبَّارِ تَعَالَى فَقَالَ وَهُوَ مَكَانُهُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا قَالَ وَالْمَكَانُ لَا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ مَكَانُ النَّبِيِّ ﷺ فِي مَقَامِهِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَامَ فِيهِ قَبْلَ هُبُوطِهِ انْتَهَى.
وَهَذَا الْأَخِيرُ مُتَعَيَّنٌ وَلَيْسَ فِي السِّيَاقِ تَصْرِيحٌ بِإِضَافَةِ الْمَكَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا جَزَمَ بِهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِرِوَايَةِ شَرِيكٍ، عَنْ أَنَسٍ فِي التَّدَلِّي فَفِيهِ نَظَرٌ، فَقَدْ ذَكَرْتُ مَنْ وَافَقَهُ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ دَنَا اللَّهُ ﷾ قَالَ وَالْمَعْنَى دَنَا أَمْرُهُ وَحُكْمُهُ، وَأَصْلُ التَّدَلِّي النُّزُولُ إِلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَقْرُبَ مِنْهُ، قَالَ: وَقِيلَ تَدَلَّى الرَّفْرَفُ لِمُحَمَّدٍ ﷺ حَتَّى جَلَسَ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَنَا مُحَمَّدٌ مِنْ رَبِّهِ انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ رَآهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ، وَمَضَى بَسْطُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ هُنَاكَ، وَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: فَاتَّفَقَتْ رِوَايَاتُ هَؤُلَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي عَبْدِهِ لِجِبْرِيلَ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ التَّقْدِيرُ: فَأَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ مَا أَوْحَى، وَقَدْ أَزَالَ الْعُلَمَاءُ إِشْكَالَهُ فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ: إِضَافَةُ الدُّنُوِّ وَالْقُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ دُنُوَّ مَكَانٍ وَلَا قُرْبَ زَمَانٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ إِبَانَةٌ لِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ وَشَرِيفِ رُتْبَتِهِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ ﷿ تَأْنِيسٌ لِنَبِيِّهِ وَإِكْرَامٌ لَهُ، وَيُتَأَوَّلُ فِيهِ مَا قَالُوهُ فِي حَدِيثِ: يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ: مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَقَالَ غَيْرُهُ: الدُّنُوُّ مَجَازٌ عَنِ الْقُرْبِ الْمَعْنَوِيِّ لِإِظْهَارِ عَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ تَعَالَى، وَالتَّدَلِّي طَلَبُ زِيَادَةِ الْقُرْبِ، وَقَابَ قَوْسَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ عِبَارَةٌ عَنْ لُطْفِ الْمَحَلِّ وَإِيضَاحِ الْمَعْرِفَةِ وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ إِجَابَةُ سُؤَالِهِ وَرَفْعُ دَرَجَتِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّحِيحَيْنِ زَادَ فِيهِ - يَعْنِي شَرِيكًا - زِيَادَةٌ مَجْهُولَةٌ وَأَتَى فِيهِ بِأَلْفَاظِ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ،
وَقَدْ رَوَى الْإِسْرَاءَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ فَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا أَتَى بِهِ شَرِيكٌ، وَشَرِيكٌ لَيْسَ بِالْحَافِظِ وَسَبَقَ إِلَى ذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٌ فِيمَا حَكَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَاهِرٍ فِي جُزْءٍ جَمَعَهُ سَمَّاهُ الِانْتِصَارُ لِأَيَامَى الْأَمْصَارِ فَنَقَلَ فِيهِ عَنِ الْحُمَيْدِيِّ، عَنِ ابْنِ حَزْمٍ قَالَ: لَمْ نَجِدْ لِلْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ مَخْرَجًا إِلَّا حَدِيثَيْنِ ثُمَّ غَلَبَهُ فِي تَخْرِيجِهِ الْوَهْمُ مَعَ إِتْقَانِهِمَا وَصِحَّةِ مَعْرِفَتِهِمَا فَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ، وَقَالَ: فِيهِ أَلْفَاظٌ مُعْجَمَةٌ وَالْآفَةُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute