وَإِلَّا ثَبَتَ الْجَبْرُ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّةِ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: بَلْ لِلْعَبْدِ قُدْرَةٌ يُفَرِّقُ بِهَا بَيْنَ النَّازِلِ مِنَ الْمَنَارَةِ وَالسَّاقِطِ مِنْهَا، وَلَكِنْ لَا تَأْثِيرَ لَهَا بَلْ فِعْلُهُ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ فِيهِ بَعْدَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَحَاصِلُ مَا تُعْرَفُ بِهِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ أَنَّهَا صِفَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ عَادَةً، وَتَقَعُ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ انْتَهَى.
وَقَدْ أَطْنَبَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتَظْهَرَ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ الْوَارِدَةِ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ، وَغَرَضُهُ هُنَا الرَّدُّ عَلَى مَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَ هَذَا الْبَابَ بِالتَّرَاجِمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ، مِثْلَ بَابِ: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، وَبَابِ: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَشْهُورَةُ بِمَسْأَلَةِ اللَّفْظِ، وَيُقَالُ لِأَصْحَابِهَا اللَّفْظِيَّةُ، وَاشْتَدَّ إِنْكَارُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ تَبِعَهُ عَلَى مَنْ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَيُقَالُ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْكَرَابِيسِيُّ أَحَدُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ النَّاقِلِينَ لِكِتَابِهِ الْقَدِيمِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ بَدَّعَهُ وَهَجَرَهُ، ثُمَّ قَالَ بِذَلِكَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ رَأْسُ الظَّاهِرِيَّةِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِنَيْسَابُورَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ إِسْحَاقُ وَبَلَغَ ذَلِكَ أَحْمَدَ فَلَمَّا قَدِمَ بَغْدَادَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَجَمَعَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَسْمَاءَ مَنْ أَطْلَقَ عَلَى اللَّفْظِيَّةِ أَنَّهُمْ جَهْمِيَّةٌ فَبَلَغُوا عَدَدًا كَثِيرًا مِنَ الْأَئِمَّةِ وَأَفْرَدَ لِذَلِكَ بَابًا فِي كِتَابِهِ الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَالَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا حَسْمَ الْمَادَّةِ صَوْنًا لِلْقُرْآنِ أَنْ يُوصَفَ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا، وَإِذَا حُقِّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ لَمْ يُفْصِحْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِأَنَّ حَرَكَةَ لِسَانِهِ إِذَا قَرَأَ قَدِيمَةٌ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ
وَهُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، وَأَمَّا التِّلَاوَةُ فَهُمْ عَلَى طَرِيقَتَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التِّلَاوَةِ وَالْمَتْلُوِّ وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَبَّ تَرْكَ الْقَوْلِ فِيهِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَإِنَّمَا أَرَادَ حَسْمَ الْمَادَّةِ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ أَحَدٌ إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَسْنَدَ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى أَحْمَدَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَقَالَ الْقُرْآنُ كَيْفَ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَأَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا، الثَّانِي مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْأَوَّلِ، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ الطُّوسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الصَّوْتُ مِنَ الْمُصَوِّتِ كَلَامُ اللَّهِ وَهِيَ عِبَارَةٌ رَدِيئَةٌ لَمْ يُرِدْ ظَاهِرَهَا وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ كَوْنِ الْمَتْلُوِّ مَخْلُوقًا، وَوَقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ لِإِمَامِ الْأَئِمَّةِ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ، ثُمَّ رَجَعَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ تَلَامِذَتِهِ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ أَمْلَى أَبُو بَكْرٍ الضُّبَعِيُّ - الْفَقِيهُ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ مِنْ تَلَامِذَتِهِ ابْنُ خُزَيْمَةَ - اعْتِقَادَهُ، وَفِيهِ لَمْ يَزَلِ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا وَلَا مِثْلَ لِكَلَامِهِ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْمِثْلَ عَنْ صِفَاتِهِ كَمَا نَفَى الْمِثْلَ عَنْ ذَاتِهِ، وَنَفَى النَّفَادَ عَنْ كَلَامِهِ كَمَا نَفَى الْهَلَاكَ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ ﴿لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي﴾ وَقَالَ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ فَاسْتَصْوَبَ ذَلِكَ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَرَضِيَ بِهِ، وَقَالَ غَيْرُهُ ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْبُخَارِيَّ خَالَفَ أَحْمَدَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ خِلَافًا مَعْنَوِيًّا؛ لَكِنَّ الْعَالِمَ مِنْ شَأْنِهِ إِذَا
ابْتُلِيَ فِي رَدِّ بِدْعَةٍ يَكُونُ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي رَدِّهَا دُونَ مَا يُقَابِلُهَا، فَلَمَّا ابْتُلِيَ أَحْمَدُ بِمَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ كَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ حَتَّى بَالَغَ فَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ يَقِفُ وَلَا يَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ، وَعَلَى مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ لِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِي مَخْلُوقٌ، مَعَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ لَكِنَّهُ قَدْ يَخْفَى عَلَى الْبَعْضِ، وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ فَابْتُلِيَ بِمَنْ يَقُولُ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ وَالْمِدَادُ وَالْوَرَقُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ، فَكَانَ أَكْثَرُ كَلَامِهِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَبَالَغَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَأَطْنَبَ فِي ذَلِكَ حَتَّى نُسِبَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّفْظِيَّةِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إِنَّ الَّذِي يُسْمَعُ مِنَ الْقَارِئِ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ لَا يُعْرَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَلَا قَالَهُ أَحْمَدُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute