للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

(يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ)، قال: ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: هِيَ نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا مَا كَانَ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ، فَأَمَّا مَا اقْتَضَى فِعْلَ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَرْكَ مَفْسَدَةٍ فَهُوَ مَطْلُوبٌ، انْتَهَى. وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلنَّمِيمَةِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ يُخَالِفُهُ كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْأَدَبِ.

قال النَّوَوِيُّ: وَهِيَ نَقْلُ كَلَامِ الْغَيْرِ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ، وَهِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ. وَتَعَقَّبَهُ الْكِرْمَانِيُّ فَقَالَ: هَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى قَاعِدَةِ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْكَبِيرَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ وَلَا حَدَّ عَلَى الْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِمْرَارُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ جَعْلَهُ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْكَبِيرَةِ. أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَبِيرَةِ مَعْنًى غَيْرُ الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، انْتَهَى. وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْفُقَهَاءِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ جَمِيعِهِمْ، لَكِنَّ كَلَامَ الرَّافِعِيِّ يُشْعِرُ بِتَرْجِيحِهِ حَيْثُ حَكَى فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا هَذَا، وَالثَّانِي مَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ. قال: وَهُمْ إِلَى الْأَوَّلِ أَمْيَلُ. وَالثَّانِي أَوْفَقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ، انْتَهَى.

وَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يُعَدَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنَ الْكَبَائِرِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ عَدَّهُمَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحُدُودِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعُرِفَ بِهَذَا الْجَوَابِ عَنِ اعْتِرَاضِ الْكِرْمَانِيِّ بِأَنَّ النَّمِيمَةَ قَدْ نُصَّ فِي الصَّحِيحِ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَوْلُهُ: (ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ)، وَلِلْأَعْمَشِ فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ وَالْعَسِيبُ بِمُهْمَلَتَيْنِ بِوَزْنِ فَعِيلٍ هِيَ الْجَرِيدَةُ الَّتِي لَمْ يَنْبُتْ فِيهَا خُوصٌ، فَإِنْ نَبَتَ فَهِيَ السَّعَفَةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ خَصَّ الْجَرِيدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ بَطِيءُ الْجَفَافِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ أَنَّ الَّذِيَ أَتَاهُ بِالْجَرِيدَةِ بِلَالٌ، وَلَفْظُهُ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ فِي جِنَازَةٍ إِذْ سَمِعَ شَيْئًا فِي قَبْرٍ، فَقَالَ لِبِلَالٍ: ائْتِنِي بِجَرِيدَةٍ خَضْرَاءَ الْحَدِيثَ.

قَوْلُهُ: (فَكَسَرَهَا)؛ أَيْ: فَأَتَى بِهَا فَكَسَرَهَا، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ الَّذِي أَتَى بِهَا إِلَى النَّبِيِّ ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَاخِرِ الْكِتَابِ أَنَّهُ الَّذِي قَطَعَ الْغُصْنَيْنِ، فَهُوَ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ، فَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ أَوْجُهٍ: مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَقِصَّةُ جَابِرٍ كَانَتْ فِي السَّفَرِ وَكَانَ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ جَابِرٌ وَحْدَهُ.

وَمِنْهَا أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهُ غَرَسَ الْجَرِيدَةَ بَعْدَ أَنْ شَقَّهَا نِصْفَيْنِ كَمَا فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ أَمَرَ جَابِرًا بِقَطْعِ غُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَتَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ اسْتَتَرَ بِهِمَا عِنْدَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، ثُمَّ أَمَرَ جَابِرًا فَأَلْقَى الْغُصْنَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ حَيْثُ كَانَ النَّبِيُّ جَالِسًا، وَأَنَّ جَابِرًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّي مَرَرْتُ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَأَحْبَبْتُ بِشَفَاعَتِي أَنْ يُرْفَعَ عَنْهُمَا مَا دَامَ الْغُصْنَانِ رَطْبَيْنِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي قِصَّةِ جَابِرٍ أَيْضًا السَّبَبُ الَّذِي كَانَا يُعَذَّبَانِ بِهِ، وَلَا التَّرَجِّي الْآتِي فِي قَوْلِهِ لَعَلَّهُ، فَبَانَ تَغَايُرُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ جَابِرٍ وَأَنَّهُمَا كَانَا فِي قِصَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَلَا يَبْعُدُ تَعَدُّدُ ذَلِكَ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ مَرَّ بِقَبْرٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: ائْتُونِي بِجَرِيدَتَيْنِ، فَجَعَلَ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْأُخْرَى عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ قِصَّةً ثَالِثَةً، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَسَمِعَ شَيْئًا فِي قَبْرٍ وَفِيهِ فَكَسَرَهَا بِاثْنَيْنِ تَرَكَ نِصْفَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَنِصْفَهَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَفِي قِصَّةِ الْوَاحِدِ جعلَ نِصْفَهَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَنِصْفَهَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَفِي قِصَّةِ الِاثْنَيْنِ جَعَلَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ جَرِيدَةً.

قَوْلُهُ (كِسْرَتَيْنِ) بِكَسْرِ الْكَافِ، وَالْكِسْرَةُ الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ الْمَكْسُورِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ أَنَّهَا كَانَتْ نِصْفًا. وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ عَنْهُ بِاثْنَتَيْنِ، قال: النَّوَوِيُّ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ وَالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَ) وَفِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ الْآتِيَةِ فَغَرَزَ وَهِيَ أَخَصُّ مِنَ الْأُولَى.

قَوْلُهُ: (فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً)