للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

ثالثها: أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز جيدها من موهومها، بخلاف مسلم، فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه ممن تقدم عن عصره من التابعين ومن بعدهم، ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم منهم.

رابعها: أن البخاري يخرج من أحاديث أهل الطبقة الثانية انتقاء، ومسلم يخرجها أصولا، كما تقدم ذلك من تقرير الحافظ أبي بكر الحازمي، فهذه الأوجه الأربعة تتعلق بإتقان الرواة.

وبقي ما يتعلق بالاتصال، وهو الوجه الخامس وذلك أن مسلما كان مذهبه على ما صرح به في مقدمة صحيحه وبالغ في الرد على من خالفه، أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن ومن عنعن عنه، وإن لم يثبت اجتماعهما، إلا إن كان المعنعن مدلسا، والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة، وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه وأكثر منه، حتى أنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة، إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئا معنعنا، وسترى ذلك واضحا في أماكنه إن شاء الله تعالى، وهذا مما ترجح به كتابه، لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال، والله أعلم.

وأما ما يتعلق بعدم العلة، وهو الوجه السادس فإن الأحاديث التي انتقدت عليهما بلغت مائتي حديث وعشرة أحاديث، كما سيأتي ذكر ذلك مفصلا في فصل مفرد، اختص البخاري منها بأقل من ثمانين، وباقي ذلك يختص بمسلم، ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر، والله أعلم. وأما قول أبي علي النيسابوري فلم نقف قط على تصريحه بأن كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري، بخلاف ما يقتضيه إطلاق الشيخ محيي الدين في مختصره في علوم الحديث وفي مقدمة شرح البخاري أيضا، حيث يقول: اتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهما صحيحا وأكثرهما فوائد، وقال أبو علي النيسابوري وبعض علماء المغرب: صحيح مسلم أصح، انتهى. ومقتضى كلام أبي علي نفي الأصحية عن غير كتاب مسلم عليه، أما إثباتها له فلا، لأن إطلاقه يحتمل أن يريد ذلك ويحتمل أن يريد المساواة، والله أعلم، والذي يظهر لي من كلام أبي علي أنه إنما قدم صحيح مسلم لمعنى غير ما يرجع إلى ما نحن بصدده من الشرائط المطلوبة في الصحة، بل ذلك لأن مسلما صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات، فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندور، تبعا لا مقصودا، فلهذا قال أبو علي ما قال، مع أني رأيت بعض أئمتنا يجوز أن يكون أبو علي ما رأى صحيح البخاري، وعندي في ذلك بعد، والأقرب ما ذكرته، وأبو علي لو صرح بما نسب إليه لكان محجوجا بما قدمناه مجملا ومفصلا، والله الموفق، وأما بعض شيوخ المغاربة، فلا يحفظ عن أحد منهم تقييد الأفضلية بالأصحية، بل أطلق بعضهم الأفضلية، وذلك فيما حكاه القاضي أبو الفضل عياض في الإلماع عن أبي مروان الطبني، بضم الطاء المهملة ثم إسكان الباء الموحدة بعدها نون، قال: كان بعض شيوخي يفضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، انتهى.

وقد وجدت تفسير هذا التفضيل عن بعض المغاربة، فقرأت في فهرسة أبي محمد

<<  <  ج: ص:  >  >>