اصطلاح أهل الحديث، ومثل هذا من مثل النسائي غاية في الوصف مع شدة تحريه وتوقيه وتثبته في نقد الرجال، وتقدمه في ذلك على أهل عصره حتى قدمه قوم من الحذاق في معرفة ذلك على مسلم بن الحجاج، وقدمه الدارقطني وغيره في ذلك وغيره على إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح.
وقال الإسماعيلي في المدخل له: أما بعد، فإني نظرت في كتاب الجامع الذي ألفه أبو عبد الله البخاري فرأيته جامعا - كما سمي - لكثير من السنن الصحيحة، ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع إلى معرفة الحديث ونقلته، والعلم بالروايات وعللها علما بالفقه واللغة، وتمكنا منها كلها وتبحرا فيها، وكان يرحمه الله الرجل الذي قصر زمانه على ذلك، فبرع وبلغ الغاية، فحاز السبق، وجمع إلى ذلك حسن النية والقصد للخير فنفعه الله ونفع به. قال: وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة، منهم الحسن بن علي الحلواني، لكنه اقتصر على السنن، ومنهم أبو داود السجستاني، وكان في عصر أبي عبد الله البخاري، فسلك فيما سماه سننا ذكر ما روي في الشيء وإن كان في السند ضعف إذا لم يجد في الباب غيره، ومنهم مسلم بن الحجاج وكان يقاربه في العصر فرام مرامه وكان يأخذ عنه، أو عن كتبه، إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله، وروى عن جماعة كثيرة لم يتعرض أبو عبد الله للرواية عنهم، وكل قصد الخير، غير أن أحدا منهم لم يبلغ من التشدد مبلغ أبي عبد الله، ولا تسبب إلى استنباط المعاني واستخراج لطائف فقه الحديث وتراجم الأبواب الدالة على ما له وصلة بالحديث المروي فيه تسببه، ولله الفضل يختص به من يشاء.
وقال الحاكم أبو أحمد النيسابوري، وهو عصري أبي علي النيسابوري، ومقدم عليه في معرفة الرجال، فيما حكاه أبو يعلى الخليلي الحافظ في الإرشاد، ما ملخصه: رحم الله محمد بن إسماعيل، فإنه ألف الأصول - يعني أصول الأحكام - من الأحاديث، وبين للناس، وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه، كمسلم بن الحجاج. وقال الدارقطني لما ذكر عنده الصحيحان: لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء. وقال مرة أخرى: وأي شيء صنع مسلم، إنما أخذ كتاب البخاري فعمل عليه مستخرجا، وزاد فيه زيادات. وهذا الذي حكيناه عن الدارقطني جزم به أبو العباس القرطبي في أول كتابه المفهم في شرح صحيح مسلم، والكلام في نقل كلام الأئمة في تفضيله كثير، ويكفي منه اتفاقهم على أنه كان أعلم بهذا الفن من مسلم، وأن مسلما كان يشهد له بالتقدم في ذلك والإمامة فيه والتفرد بمعرفة ذلك في عصره، حتى هجر من أجله شيخه محمد بن يحيى الذهلي في قصة مشهورة سنذكرها مبسوطة إن شاء الله تعالى في ترجمة البخاري، فهذا من حيث الجملة، وأما من حيث التفصيل فقد قررنا أن مدار الحديث الصحيح على الاتصال وإتقان الرجال وعدم العلل، وعند التأمل يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالا وأشد اتصالا، وبيان ذلك من أوجه.
أحدها: أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضع وثلاثون رجلا، المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلا، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا، المتكلم فيه بالضعف منهم مائة وستون رجلا، ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه، وإن لم يكن ذلك الكلام قادحا.
ثانيها: أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم، وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلها أو أكثرها، إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس، بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر، وسهيل عن أبيه، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحماد بن سلمة عن ثابت، وغير ذلك.