النُّبُوَّةِ الَّتِي قَصَرَتْ عُلُومَ الْأَلِبَّاءِ عَنْ إِدْرَاكِ حَقِيقَتِهَا كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلَعَلَّ الْفَائِدَةَ هِيَ اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ مُصْطَفِّينَ كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالْإِمَامِ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا قَدَّمْتُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَغَفَلَ عَنْ مُرَادِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ، لَكِنْ أَشَارَ الْكِرْمَانِيُّ إِلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ كَوْنَ الْمَكْتُوبَاتِ خَمْسًا فَأُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي تَكْثِيرِهَا فَضُرِبَتْ فِي مِثْلِهَا فَصَارَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ. ثُمَّ ذَكَرَ لِلسَّبْعِ مُنَاسَبَةً أَيْضًا مِنْ جِهَةِ عَدَدِ رَكَعَاتِ الْفَرَائِضِ وَرَوَاتِبِهَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ لِلْمُصَلِّي مُنْفَرِدًا فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ آخَرُ بَلَغَتْ عِشْرِينَ ثُمَّ زِيدَ بِقَدْرِ عَدَدِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَوْ يُزَادُ عَدَدَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ، وَلَا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا. وَقِيلَ: الْأَعْدَادُ عَشَرَاتٌ وَمِئُينَ، وَأُلُوفٌ وَخَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ فَاعْتُبِرَتِ الْمِائَةُ وَالْعَدَدُ الْمَذْكُورُ رُبْعُهَا، وَهَذَا أَشَدُّ فَسَادًا مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَرَأْتُ بِخَطِّ شَيْخِنَا الْبُلْقِينِيِّ فِيمَا كَتَبَ عَلَى الْعُمْدَةِ: ظَهَرَ لِي فِي هَذَيْنِ الْعَدَدَيْنِ شَيْءٌ لَمْ أُسْبَقْ إِلَيْهِ، لِأَنَّ لَفْظَ ابْنِ عُمَرَ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ، وَمَعْنَاهُ الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَحْكُومِ لَهُ بِذَلِكَ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، وَأَدْنَى الْأَعْدَادِ الَّتِي يَتَحَقَّقُ فِيهَا ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَتَى بِحَسَنَةٍ وَهِيَ بِعَشَرَةٍ فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِهِ ثَلَاثُونَ، فَاقْتَصَرَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْفَضْلِ الزَّائِدِ، وَهُوَ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دُونَ الثَّلَاثَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلُ ذَلِكَ. انْتَهَى.
وَظَهَرَ لِي فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمَاعَةِ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ، فَلَوْلَا الْإِمَامُ مَا سُمِّيَ الْمَأْمُومُ، وَكَذَا عَكْسُهُ، فَإِذَا تَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَى مَنْ صَلَّى جَمَاعَةً بِزِيَادَةِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةٍ حُمِلَ الْخَبَرُ الْوَارِدُ بِلَفْظِهَا عَلَى الْفَضْلِ الزَّائِدِ، وَالْخَبَرُ الْوَارِدُ بِلَفْظِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ عَلَى الْأَصْلِ وَالْفَضْلِ.
وَقَدْ خَاضَ قَوْمٌ فِي تَعْيِينِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلدَّرَجَاتِ الْمَذْكُورَةِ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَمَا جَاءُوا بِطَائِلٍ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - يَعْنِي ثَالِثَ أَحَادِيثِ الْبَابِ - إِشَارَةً إِلَى بَعْضِ ذَلِكَ، وَيُضَافُ إِلَيْهِ أُمُورٌ أُخْرَى وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ فَصَّلَهَا ابْنُ بَطَّالٍ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الشَّارِحِينَ، وَتَعَقَّبَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ وَاخْتَارَ تَفْصِيلًا آخَرَ أَوْرَدَهُ، وَقَدْ نَقَّحْتُ مَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَحَذَفْتُ مَا لَا يَخْتَصُّ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: فَأَوَّلُهَا إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَالتَّبْكِيرُ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْمَشْيُ إِلَى الْمَسْجِدِ بِالسَّكِينَةِ، وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ دَاعِيًا، وَصَلَاةُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ دُخُولِهِ كُلُّ ذَلِكَ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ، سَادِسُهَا انْتِظَارُ الْجَمَاعَةِ، سَابِعُهَا صَلَاةُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ وَاسْتِغْفَارُهُمْ لَهُ، ثَامِنُهَا شَهَادَتُهُمْ لَهُ، تَاسِعُهَا إِجَابَةُ الْإِقَامَةِ، عَاشِرُهَا السَّلَامَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ حِينَ يَفِرُّ عِنْدَ الْإِقَامَةِ، حَادِيَ عَاشِرَهَا الْوُقُوفُ مُنْتَظِرًا إِحْرَامَ الْإِمَامِ أَوِ الدُّخُولُ مَعَهُ فِي أَيِّ هَيْئَةٍ وَجدَهُ عَلَيْهَا، ثَانِيَ عَشَرَهَا إِدْرَاكُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَذَلِكَ، ثَالِثَ عَشَرَهَا: تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَسَدُّ فُرَجِهَا، رَابِعَ عَشَرَهَا جَوَابُ الْإِمَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، خَامِسَ عَشَرَهَا الْأَمْنُ مِنَ السَّهْوِ غَالِبًا، وَتَنْبِيهُ الْإِمَامِ إِذَا سَهَا بِالتَّسْبِيحِ أَوِ الْفَتْحِ عَلَيْهِ، سَادِسَ عَشَرَهَا حُصُولُ الْخُشُوعِ وَالسَّلَامَةِ عَمَّا يُلْهِي غَالِبًا، سَابِعَ عَشَرَهَا تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ غَالِبًا، ثَامِنَ عَشَرَهَا احْتِفَافُ
الْمَلَائِكَةِ بِهِ، تَاسِعَ عَشَرَهَا التَّدَرُّبُ عَلَى تَجْوِيدِ الْقِرَاءَةِ وَتَعَلُّمِ الْأَرْكَانِ وَالْأَبْعَاضِ، الْعِشْرُونَ إِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ إِرْغَامُ الشَّيْطَانِ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الطَّاعَةِ وَنَشَاطِ الْمُتَكَاسِلِ، الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ السَّلَامَةُ مِنْ صِفَةِ النِّفَاقِ وَمِنْ إِسَاءَةِ غَيْرِهِ الظَّنَّ بِأَنَّهُ تَرَكَ الصَّلَاةَ رَأْسًا، الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ رَدُّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ، الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الِانْتِفَاعُ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَعَوْدُ بَرَكَةِ الْكَامِلِ عَلَى النَّاقِصِ، الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ قِيَامُ نِظَامِ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ، وَحُصُولُ تَعَاهُدِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ.
فَهَذِهِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ خَصْلَةً، وَرَدَ فِي كُلٍّ مِنْهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute