سَعِيدٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ، وَلَمْ نَجِدْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ حَفْصٍ، وَلَا عَنْ حَفْصٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ خُبَيْبٍ. نَعَمْ أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالرَّاوِي لَهُ عَنْ سُهَيْلٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ الْأَسْلَمِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ، وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ فِي الْمُتَابَعَاتِ، وَوَافَقَ فِي قَوْلِهِ تَصَدَّقَ بِيَمِينِهِ وَكَذَا أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ لَكِنْ حُكْمُهُ الرَّفْعُ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مَرْفُوعًا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَالَتْ: يَا رَبِّ هَلْ مِنْ خَلْقِكَ شَيْءٌ أَشَدُّ مِنَ الْجِبَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْحَدِيدُ. قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الْحَدِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ، النَّارُ. قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الْمَاءُ. قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الْمَاءِ؟ قَالَ: نَعَمْ، الرِّيحُ. قَالَتْ: فَهَلْ أَشَدُّ مِنَ الرِّيحِ؟ قَالَ.
نَعَمْ، ابْنُ آدَمَ يَتَصَدَّقُ بِيَمِينِهِ فَيُخْفِيهَا عَنْ شِمَالِهِ. ثُمَّ إِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي إِخْفَاءِ الصَّدَقَةِ بِحَيْثُ إنَّ شِمَالَهُ مَعَ قُرْبِهَا مِنْ يَمِينِهِ وَتَلَازُمِهِمَا لَوْ تَصَوَّرَ أَنَّهَا تَعْلَمُ لَمَا عَلِمَتْ مَا فَعَلَتِ الْيَمِينُ لِشِدَّةِ إِخْفَائِهَا، فَهُوَ عَلَى هَذَا مِنْ مَجَازِ التَّشْبِيهِ. وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ: تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ كَأَنَّمَا أَخْفَى يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ وَالتَّقْدِيرِ حَتَّى لَا يَعْلَمَ مَلَكُ شِمَالِهِ. وَأَبْعَدَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِشِمَالِهِ نَفْسُهُ وَأَنَّهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ إِلَى أَنَّ نَفْسَهُ لَا تَعْلَمُ مَا تُنْفِقُ نَفْسُهُ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ وَالْمُرَادُ بِشِمَالِهِ مَنْ عَلَى شِمَالِهِ مِنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ قَالَ مُجَاوِرُ شِمَالِهِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُرَائِي بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَكْتُبُهَا كَاتِبُ الشِّمَالِ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الضَّعِيفِ الْمُكْتَسِبِ فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ لِتَرْوِيجِ سِلْعَتِهِ أَوْ رَفْعِ قِيمَتِهَا وَاسْتَحْسَنَهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ إِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مُرَادُ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا مِنْ صُوَرِ الصَّدَقَةِ الْمَخْفِيَّةِ فَمسلم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: (ذَكَرَ اللَّهَ) أَيْ بِقَلْبِهِ مِنَ التَّذَكُّرِ أَوْ بِلِسَانِهِ مِنَ الذِّكْرِ، وَ (خَالِيًا) أَيْ مِنَ الْخُلُوِّ لِأَنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ أَبْعَدَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالْمُرَادُ خَالِيًا مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ فِي مَلَأٍ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ الْبَيْهَقِيِّ ذُكِرَ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ رِوَايَةُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ أَيْ فِي مَوْضِعٍ خَالٍ وَهِيَ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ: (فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) أَيْ فَاضَتِ الدُّمُوعُ مِنْ عَيْنَيْهِ، وَأُسْنِدَ الْفَيْضُ إِلَى الْعَيْنِ مُبَالَغَةً كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي فَاضَتْ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفَيْضُ الْعَيْنِ بِحَسَبِ حَالِ الذَّاكِرِ وَبِحَسَبِ مَا يُكْشَفُ لَهُ، فَفِي حَالِ أَوْصَافِ الْجَلَالِ يَكُونُ الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَفِي حَالِ أَوْصَافِ الْجَمَالِ يَكُونُ الْبُكَاءُ مِنَ الشَّوْقِ إِلَيْهِ.
قُلْتُ: قَدْ خُصَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالْأَوَّلِ، فَفِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عِنْدَ الْجَوْزَقِيِّ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَنَحْوُهُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا مَنْ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يُصِيبَ الْأَرْضَ مِنْ دُمُوعِهِ لَمْ يُعَذَّبْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
(تَنْبِيهَانِ): (الْأَوَّلُ) ذِكْرُ الرِّجَالِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ يَشْتَرِكُ النِّسَاءُ مَعَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ، إِلَّا إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْإِمَامِ الْعَادِلِ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ دُخُولُ الْمَرْأَةِ حَيْثُ تَكُونُ ذَاتَ عِيَالٍ فَتَعْدِلُ فِيهِمْ. وَتَخْرُجُ خَصْلَةُ مُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالْمُشَارَكَةُ حَاصِلَةٌ لَهُنَّ، حَتَّى الرَّجُلُ الَّذِي دَعَتْهُ الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي امْرَأَةٍ دَعَاهَا مَلِكٌ جَمِيلٌ مَثَلًا فَامْتَنَعَتْ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ حَاجَتِهَا، أَوْ شَابٌّ جَمِيلٌ دَعَاهُ مَلِكٌ إِلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ مَثَلًا فَخَشِيَ أَنْ يَرْتَكِبَ مِنْهُ الْفَاحِشَةَ فَامْتَنَعَ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ.
(الثَّانِي) اسْتَوْعَبْتُ شَرْحَ هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِمَا شَرَطْتُ لِأَنَّ أَلْيَقَ الْمَوَاضِعِ بِهِ كِتَابُ الرِّقَاقِ، وَقَدِ اخْتَصَرَهَا الْمُصَنِّفُ حَيْثُ أَوْرَدَهُ فِيهِ، وَسَاقَهُ تَامًّا فِي الزَّكَاةِ وَالْحُدُودِ، فَاسْتَوْفَيْتُهُ هُنَا، لِأَنَّ لِلْأَوَّلِيَّةِ وَجْهًا مِنَ الْأَوْلَوِيَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute