الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا مِنْ رِوَايَةِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِ التَّصْفِيقِ لِلنِّسَاءِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَلَفْظُهُ إِذَا نَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّحِ النِّسَاءُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَجَمْعُ كَلِمَةِ الْقَبِيلَةِ وَحَسْمُ مَادَّةِ الْقَطِيعَةِ، وَتَوَجُّهُ الْإِمَامِ بِنَفْسِهِ إِلَى بَعْضِ رَعِيَّتِهِ لِذَلِكَ، وَتَقْدِيمُ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَصْلَحَةِ الْإِمَامَةِ بِنَفْسِهِ. وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ تَوَجُّهُ الْحَاكِمِ لِسَمَاعِ دَعْوَى بَعْضِ الْخُصُومِ إِذَا رَجَحَ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْضَارِهمْ. وَفِيهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ بِإِمَامَيْنِ أَحَدُهمَا بَعْدَ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ إِذَا غَابَ يَسْتَخْلِفُ غَيْرَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا حَضَرَ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ نَائِبُهُ فِي الصَّلَاةِ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ أَوْ يَؤُمَّ هُوَ وَيَصِيرُ النَّائِبُ مَأْمُومًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ الصَّلَاةَ، وَلَا يُبْطِلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَلَاةَ أَحَدٍ مِنَ الْمَأْمُومِينَ.
وَادَّعَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ ﷺ، وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ﷺ، وَنُوقِضَ بِأَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ، فَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْجَوَازُ، وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْإِمَامِ يُحْدِثُ فَيَسْتَخْلِفُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَخْرُجُ الْمُسْتَخْلِفُ وَيُتِمُّ الْأَوَّلُ أَنَّ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ، وَفِيهِ جَوَازُ إِحْرَامِ الْمَأْمُومِ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَأَنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ صَلَاتِهِ إِمَامًا وَفِي بَعْضِهَا مَأْمُومًا، وَأَنَّ مَنْ أَحْرَمَ مُنْفَرِدًا ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ جَازَ لَهُ الدُّخُولُ مَعَ الْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لِصَلَاتِهِ، كَذَا اسْتَنْبَطَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ لَازِمِ جَوَازِ إِحْرَامِ الْإِمَامِ بَعْدَ الْمَأْمُومِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَفِيهِ فَضْلُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ.
وَاسْتَدَلَّ بِهِ جَمْعٌ مِنَ الشُّرَّاحِ وَمِنَ الْفُقَهَاءِ كَالرُّويَانِيِّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَفْضَلَهُمْ؛ لِكَوْنِهِمُ اخْتَارُوهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَعَلَى جَوَازِ تَقْدِيمِ النَّاسِ لِأَنْفُسِهِمْ إِذَا غَابَ إِمَامُهُمْ، قَالُوا: وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا أُمِنَتِ الْفِتْنَةُ وَالْإِنْكَارُ مِنَ الْإِمَامِ، وَأَنَّ الَّذِي يَتَقَدَّمُ نِيَابَةً عَنِ الْإِمَامِ يَكُونُ أَصْلَحَهُمْ لِذَلِكَ الْأَمْرِ وَأَقْوَمَهُمْ بِهِ، وَأَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَغَيْرَهُ يَعْرِضُ التَّقَدُّمَ عَلَى الْفَاضِلِ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ يُوَافِقُهُ بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ بِرِضَا الْجَمَاعَةِ. اهـ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ فَعَلُوا ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ إِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، وَفِيهِ أَنَّ الْإِقَامَةَ وَاسْتِدْعَاءَ الْإِمَامِ مِنْ وَظِيفَةِ الْمُؤَذِّنِ، وَأَنَّهُ لَا يُقِيمُ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ - لَا سِيَّمَا الْعَصْرَ - فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُقَدَّمٌ عَلَى انْتِظَارِ الْإِمَامِ الْأَفْضَلِ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُسَبِّحِ إِعْلَامَ غَيْرِهِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَفِيهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَالثَّنَاءِ، وَسَيَأْتِي كَذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ حَمْدِ اللَّهِ لِمَنْ تَجَدَّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ وَلَوْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِالْتِفَاتِ لِلْحَاجَةِ وَأَنَّ مُخَاطَبَةَ الْمُصَلِّي بِالْإِشَارَةِ أَوْلَى مِنْ مُخَاطَبَتِهِ بِالْعِبَارَةِ. وَأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ لِمُعَاتَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ أَبَا بَكْرٍ عَلَى مُخَالَفَةِ إِشَارَتِهِ.
وَفِيهِ جَوَازُ شَقِّ الصُّفُوفِ وَالْمَشْيِ بَيْنَ الْمُصَلِّينَ لِقَصْدِ الْوُصُولِ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى مَنْ يَلِيقُ ذَلِكَ بِهِ كَالْإِمَامِ أَوْ مَنْ كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يَحْتَاجَ الْإِمَامُ إِلَى اسْتِخْلَافِهِ، أَوْ مَنْ أَرَادَ سَدَّ فُرْجَةٍ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ أَوْ مَا يَلِيهِ مَعَ تَرْكِ مَنْ يَلِيهِ سَدَّهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَعْدُودًا مِنَ الْأَذَى. قَالَ الْمُهَلَّبُ: لَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنِ التَّخَطِّي؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَيْسَ كَغَيْرِهِ فِي أَمْرِ الصَّلَاةِ وَلَا غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِسَبَبِ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَأَطَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَقَدْ أَشَارَ هُوَ إِلَى الْمُعْتَمَدِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْأَذَى وَالْجَفَاءِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنَ التَّخَطِّي، وَلَيْسَ كَمَنْ شَقَّ الصُّفُوفَ وَالنَّاسُ جُلُوسٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخَطِّي رِقَابِهِمْ. وَفِيهِ كَرَاهِيَةُ التَّصْفِيقِ فِي الصَّلَاةِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، وَفِيهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ عَلَى الْوَجَاهَةِ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ مَنْ أُكْرِمَ بِكَرَامَةٍ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْقَبُولِ وَالتَّرْكِ إِذَا فَهِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ اللُّزُومِ، وَكَأَنَّ الْقَرِينَةَ الَّتِي بَيَّنَتْ لِأَبِي بَكْرٍ ذَلِكَ هِيَ كَوْنُهُ ﷺ شَقَّ الصُّفُوفَ إِلَى أَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُرَادَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute