شَرْطًا لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ. وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ فِي الْحَدِيثِ بَعْدَهُ.
الحديث الثالث: حَدِيثُ مَالِكٍ أَيْضًا عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، لَمْ تَخْتَلِفْ رُوَاةُ الْمُوَطَّأِ عَلَى مَالِكٍ فِي إِسْنَادِهِ، وَرِجَالُهُ مَدَنِيُّونَ كَالْأَوَّلِ، وَفِيهِ رِوَايَةُ تَابِعِيٍّ عَنْ تَابِعِيٍّ صَفْوَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَقَدْ تَابَعَ مَالِكًا عَلَى رِوَايَتِهِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ صَفْوَانَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ، وَخَالَفَهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ فَرَوَاهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَخْرَجَهُ أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوِذِيُّ فِي كِتَابِ الْجُمُعَةِ لَهُ.
قَوْلُهُ: (غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) اسْتُدِلَّ بِهِ لِمَنْ قَالَ الْغُسْلُ لِلْيَوْمِ لِلْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ، وَاسْتُنْبِطَ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ غُسْلًا مَخْصُوصًا حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ صُورَةُ الْغُسْلِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ عَنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ أَبُو قَتَادَةَ فَقَالَ لِابْنِهِ وَقَدْ رَآهُ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: إِنْ كَانَ غُسْلُكَ عَنْ جَنَابَةٍ فَأَعِدْ غُسْلًا آخَرَ لِلْجُمُعَةِ أَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمَا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْبَابِ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَكَذَا هُوَ فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْغُسْلَ حَيْثُ وُجِدَ فِيهِ كَفَى لِكَوْنِ الْيَوْمِ جُعِلَ ظَرْفًا لِلْغُسْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلْعَهْدِ فَتَتَّفِقُ الرِّوَايَتَانِ.
قَوْلُهُ: (وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ) أَيْ بَالِغٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الِاحْتِلَامَ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى دُخُولِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَاجِبٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَاهُ ابْنُ حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ وَجَمْعٍ جَمٍّ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ سَاقَ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ لَكِنْ لَيْسَ فِيهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ إِلَّا نَادِرًا، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَشْيَاءَ مُحْتَمَلَةٍ كَقَوْلِ سَعْدٍ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ مُسْلِمًا يَدَعُ غُسْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْخَطَّابِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْرُوفٍ فِي مَذْهَبِهِ، قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قَدْ نَصَّ مَالِكٌ عَلَى وُجُوبِهِ فَحَمَلَهُ مَنْ لَمْ يُمَارِسْ مَذْهَبَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَبَى ذَلِكَ أَصْحَابُهُ اهـ.
وَالرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ بِذَلِكَ فِي التَّمْهِيدِ. وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَشْهَبَ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: حَسَنٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَحَكَاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ فَقَدْ صَرَّحَ فِي صَحِيحِهِ بِأَنَّهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَاحْتَجَّ لِكَوْنِهِ مَنْدُوبًا بِعِدَّةِ أَحَادِيثَ فِي عِدَّةِ تَرَاجِمَ. وَحَكَاهُ شَارِحُ الْغُنْيَةِ لِابْنِ سُرَيْجٍ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَاسْتُغْرِبَ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ حَدِيثَيِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ: احْتَمَلَ قَوْلُهُ وَاجِبٌ مَعْنَيَيْنِ، الظَّاهِرُ مِنْهُمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ فَلَا تَجْزِي الطَّهَارَةُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ إِلَّا بِالْغُسْلِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الِاخْتِيَارِ وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ وَالنَّظَافَةِ. ثُمَّ اسْتُدِلَّ لِلِاحْتِمَالِ الثَّانِي بِقِصَّةِ عُثْمَانَ مَعَ عُمَرَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَتْرُكْ عُثْمَانُ الصَّلَاةَ لِلْغُسْلِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ عُمَرُ بِالْخُرُوجِ لِلْغُسْلِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغُسْلِ لِلِاخْتِيَارِ اهـ.
وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ عَوَّلَ أَكْثَرُ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَابْنِ خُزَيْمَةَ، وَالطَّبَرِيِّ، وَالطَّحَاوِيِّ، وَابْنِ حِبَّانَ، وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَهَلُمَّ جَرًّا، وَزَادَ بَعْضُهُمْ فِيهِ أَنَّ مَنْ حَضَرَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَافَقُوهُمَا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ، وَقَدْ نَقَلَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ بِدُونِ الْغُسْلِ مُجْزِئَةٌ، لَكِنْ حَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُمْ قَالُوا بِوُجُوبِهِ وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ شَرْطٌ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِهِ، كَأَنَّ أَصْلَهُ قَصْدُ التَّنْظِيفِ وَإِزَالَةُ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ الَّتِي يَتَأَذَّى بِهَا الْحَاضِرُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يَحْرُمُ أَكْلُ الثُّومِ عَلَى مَنْ قَصَدَ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَأْثِيمُ عُثْمَانَ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَرَكَهُ ذَاهِلًا عَنِ الْوَقْتِ، مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اغْتَسَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ حُمْرَانَ أَنَّ عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْمٌ حَتَّى يُفِيضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتَذِرْ بِذَلِكَ لِعُمَرَ كَمَا اعْتَذَرَ عَنِ التَّأَخُّرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute