لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ غُسْلَهُ بِذَهَابِهِ إِلَى الْجُمُعَةِ كَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ.
وَعَنْ بَعْضِ الْحَنَابِلَةِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ ذِي النَّظَافَةِ وَغَيْرِهِ، فَيَجِبُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ نَظَرًا إِلَى الْعِلَّةِ، حَكَاهُ صَاحِبُ الْهَدْيِ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّ قِصَّةَ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ لَا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ عُمَرَ الْخُطْبَةَ وَاشْتِغَالِهِ بِمُعَاتَبَةِ عُثْمَانَ وَتَوْبِيخِ مِثْلِهِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَلَوْ كَانَ تَرْكُ الْغُسْلِ مُبَاحًا لَمَا فَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ عُثْمَانُ لِلْغُسْلِ لِضِيقِ الْوَقْتِ إِذْ لَوْ فَعَلَ لَفَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ اغْتَسَلَ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى اسْتِحْبَابِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ مُخَالَفَةِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَقَدْ أَوَّلُوا صِيغَةَ الْأَمْرِ عَلَى النَّدْبِ وَصِيغَةَ الْوُجُوبِ عَلَى التَّأْكِيدِ كَمَا يُقَالُ: إِكْرَامُكَ عَلَيَّ وَاجِبٌ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ الْمُعَارِضُ رَاجِحًا عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ. وَأَقْوَى مَا عَارَضُوا بِهِ هَذَا الظَّاهِرَ حَدِيثَ مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ وَلَا يُعَارِضُ سَنَدُهُ سَنَدَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، قَالَ: وَرُبَّمَا تَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا مُسْتَكْرَهًا كَمَنْ حَمَلَ لَفْظَ الْوُجُوبِ عَلَى السُّقُوطِ. انْتَهَى.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَوَّلَ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ قَوْلُهُ: فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اشْتَرَاكَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ، فَيَسْتَلْزِمُ إِجْزَاءَ الْوُضُوءِ.
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ أَشْهَرُهَا وَأَقْوَاهَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ أَخْرَجَهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَلَهُ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ مِنْ عَنْعَنَةِ الْحَسَنِ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ. وَعَارَضُوا أَيْضًا بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا الْحَدِيثُ الْآتِي فِي الْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ فَإِنَّ فِيهِ وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ظَاهِرُهُ وُجُوبُ الِاسْتِنَانِ وَالطِّيبِ لِذِكْرِهِمَا بِالْعَاطِفِ، فَالتَّقْدِيرُ الْغُسْلُ وَاجِبٌ وَالِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ كَذَلِكَ، قَالَ: وَلَيْسَا بِوَاجِبَيْنِ اتِّفَاقًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِذْ لَا يَصِحُّ تَشْرِيكُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَعَ الْوَاجِبِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. انْتَهَى.
وَقَدْ سَبَقَ إِلَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَطْفُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْوَاجِبِ، لَا سِيَّمَا وَلَمْ يَقَعِ التَّصْرِيحُ بِحُكْمِ الْمَعْطُوفِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ: إِنْ سَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ لَمْ يَنْفَعْ دَفْعُهُ بِعِطْفِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ لِلْقَائِلِ أَنْ يَقُولَ: أُخْرِجَ بِدَلِيلٍ فَبَقِيَ مَا عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَعَلَى أَنَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِي الطِّيبِ مَرْدُودَةٌ، فَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي جَامِعِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُوجِبُ الطِّيبَ يَوْم الْجُمُعَة وَإِسْنَاده صَحِيح، وَكَذَا قَالَ بِوُجُوبِهِ بَعْض أَهْل الظَّاهِر. وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ توضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ غُفِرَ لَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ذَكَرَ الْوُضُوءَ وَمَا مَعَهُ مُرَتِّبًا عَلَيْهِ الثَّوَابَ الْمُقْتَضِي لِلصِّحَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ كَافٍ. وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَفْيُ الْغُسْلِ.
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ: مَنِ اغْتَسَلَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ الْوُضُوءَ لِمَنْ تَقَدَّمَ غُسْلُهُ عَلَى الذَّهَابِ فَاحْتَاجَ إِلَى إِعَادَةِ الْوُضُوءِ. وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ: سُئِلَ عَنْ غُسْلِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوَاجِبٌ هُوَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ أَطْهَرُ لِمَنِ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ. وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ بَدْءِ الْغُسْلِ: كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَعْمَلُونَ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا، فَلَمَّا آذَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ، وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ، وَكُفُوا الْعَمَلَ، وَوَسِعَ الْمَسْجِدُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالطَّحَاوِيُّ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، لَكِنَّ الثَّابِتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُهُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا.
وَعَلَى تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَالْمَرْفُوعُ مِنْهُ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَأَمَّا نَفْيُ الْوُجُوبِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute