للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الْأُخْرَيَيْنِ عَلَى النِّسْيَانِ، وَالْحَامِلُ لِلْمَانِعِينَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ ظَاهِرَهُ مُعَارِضٌ لِلْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْخُطْبَةِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: عَارَضَ قِصَّةَ سُلَيْكٍ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا كَقولِهِ تعالى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا﴾ وَقَوْلُهُ ﷺ إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ لَغَوْتَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَالَ: فَإِذَا امْتَنَعَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ أَمْرُ اللَّاغِي بِالْإِنْصَاتِ مَعَ قِصَرِ زَمَنِهِ فَمَنْعُ التَّشَاغُلِ بِالتَّحِيَّةِ مَعَ طُولِ زَمَنِهَا أَوْلَى. وَعَارَضُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ ﷺ وَهُوَ يَخْطُبُ لِلَّذِي دَخَلَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ، قَالُوا: فَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّحِيَّةِ.

وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ الَّتِي تَئُولُ إِلَى إِسْقَاطِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ إِنَّمَا يُعْمَلُ بِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ هُنَا مُمْكِنٌ أَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَتِ الْخُطْبَةُ كُلُّهَا قُرْآنًا، وَأَمَّا مَا فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ كَالْجَوَابِ عَنِ الْحَدِيثِ وَهُوَ تَخْصِيصُ عُمُومِهِ بِالدَّاخِلِ، وَأَيْضًا فَمُصَلِّي التَّحِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُنْصِتٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سُكُوتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ؟ فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَوْلِ: سِرًّا السُّكُوتَ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ بِشْرٍ فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعَةُ عَيْنٍ لَا عُمُومَ فِيهَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ أَمْرِهِ بِالتَّحِيَّةِ قَبْلَ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَقَدْ عَارَضَ بَعْضُهُمْ فِي قِصَّةِ سُلَيْكٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لَهُ: اجْلِسْ أَيْ بِشَرْطِهِ، وَقَدْ عُرِفَ قَوْلُهُ لِلدَّاخِلِ فَلَا تَجْلِسْ حَتَّى تُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: اجْلِسْ أَيْ لَا تَتَخَطَّ، أَوْ تَرَكَ أَمْرَهُ بِالتَّحِيَّةِ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ وَاجِبَةً، أَوْ لِكَوْنِ دُخُولِهِ وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ الْخُطْبَةِ بِحَيْثُ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنِ التَّحِيَّةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِثْنَاءِ هَذِهِ الصُّورَةِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى التَّحِيَّةَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَقَدَّمَ لِيَقْرَبَ مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ فَوَقَعَ مِنْهُ التَّخَطِّي فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ.

وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فِيهِ أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، قَالَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَأَبُو حَاتِمٍ والْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ لَا تُعَارَضُ بِمِثْلِهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ سُلَيْكٍ فَقَدْ ذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّهَا أَصَحُّ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْوَى، وَأَجَابَ الْمَانِعُونَ أَيْضًا بِأَجْوِبَةٍ غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ، اجْتَمَعَ لَنَا مِنْهَا زِيَادَةٌ عَلَى عَشَرَةِ أَوْرَدْتُهَا مُلَخَّصَةً مَعَ الْجَوَابِ عَنْهَا لِتُسْتَفَادَ:

(الْأَوَّلُ) قَالُوا: إِنَّهُ ﷺ لَمَّا خَاطَبَ سُلَيْكًا سَكَتَ عَنْ خُطْبَتِهِ حَتَّى فَرَغَ سُلَيْكٌ مِنْ صَلَاتِهِ، فَعَلَى هَذَا فَقَدْ جَمَعَ سُلَيْكٌ بَيْنَ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ التَّحِيَّةِ، فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِمَنْ أَجَازَ التَّحِيَّةَ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَدْ ضَعَّفَهُ وَقَالَ: إِنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ مُرْسَلًا أَوْ مُعْضَلًا، وَقَدْ تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَمْ يَسُغْ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ، لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ قَطْعِ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِ الدَّاخِلِ، وَالْعَمَلُ عِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ وَاجِبًا.

(الثَّانِي) قِيلَ: لَمَّا تَشَاغَلَ النَّبِيُّ ﷺ بِمُخَاطَبَةِ سُلَيْكٍ سَقَطَ فَرْضُ الِاسْتِمَاعِ عَنْهُ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ حِينَئِذٍ خُطْبَةٌ لِأَجْلِ تِلْكَ الْمُخَاطَبَةِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَادَّعَى أَنَّهُ أَقْوَى الْأَجْوِبَةِ.

وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ مِنْ أَضْعَفِهَا لِأَنَّ الْمُخَاطَبَةَ لَمَّا انْقَضَتْ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى خُطْبَتِهِ، وَتَشَاغَلَ سُلَيْكٌ بِامْتِثَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ، فَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى فِي حَالِ الْخُطْبَةِ.

(الثَّالِثُ): قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَبْلَ شُرُوعِهِ ﷺ فِي الْخُطْبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ اللَّيْثِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالنَّبِيُّ ﷺ قَاعِدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقُعُودَ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَخْتَصُّ بِالِابْتِدَاءِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ أَيْضًا، فَيَكُونُ كَلَّمَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَلَمَّا قَامَ لِيُصَلِّيَ قَامَ النَّبِيُّ ﷺ لِلْخُطْبَةِ لِأَنَّ زَمَنَ الْقُعُودِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ لَا يَطُولُ. وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي تَجَوَّزَ فِي قَوْلِهِ قَاعِدٌ