لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ كُلَّهَا مُطْبِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ.
(الرَّابِعُ) قِيلَ: كَانَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ سُلَيْكًا مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ جِدًّا وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ مُتَقَدِّمٌ جِدًّا كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ فِي أَوَاخِرِ الصَّلَاةِ، فَكَيْفَ يُدَّعَى نَسْخُ الْمُتَأَخِّرِ بِالْمُتَقَدِّمِ مَعَ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ، وَقِيلَ: كَانَتْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ، وَعُورِضَ هَذَا الِاحْتِمَالُ بِمِثْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ وَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِصَلَاةِ التَّحِيَّةِ، وَالْأَوْلَى فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ رَفْعِهِ: يُخَصُّ عُمُومُهُ بِحَدِيثِ الْأَمْرِ بِالتَّحِيَّةِ خَاصَّةً كَمَا تَقَدَّمَ.
(الْخَامِسُ) قِيلَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْعَ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ يَسْتَوِي فِيهِ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجَهُ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّنَفُّلُ حَالَ الْخُطْبَةِ فَلْيَكُنِ الْآتِي كَذَلِكَ قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَمَا نَقَلَهُ مِنَ الِاتِّفَاقِ وَافَقَهُ عَلَيْهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ شَذَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَقَالَ: يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ، فَإِنْ قُلْنَا بِهِ امْتَنَعَ التَّنَفُّلِ وَإِلَّا فَلَا.
(السَّادِسُ) قِيلَ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الدَّاخِلَ وَالْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ تَسْقُطُ عَنْهُ التَّحِيَّةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْخُطْبَةَ صَلَاةٌ فَتَسْقُطُ عَنْهُ فِيهَا أَيْضًا، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ صَلَاةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَالدَّاخِلُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ مَأْمُورٌ بِشَغْلِ الْبُقْعَةِ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ جُلُوسِهِ، بِخِلَافِ الدَّاخِلِ فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ إِتْيَانَهُ بِالصَّلَاةِ الَّتِي أُقِيمَتْ يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، هَذَا مَعَ تَفْرِيقِ الشَّارِعِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ بَلْ أَمَرَهُمْ فِيهَا بِالصَّلَاةِ.
(السَّابِعُ) قِيلَ: اتَّفَقُوا عَلَى سُقُوطِ التَّحِيَّةِ عَنِ الْإِمَامِ مَعَ كَوْنِهِ يَجْلِسُ عَلَى الْمِنْبَرِ مَعَ أَنَّ لَهُ ابْتِدَاءَ الْكَلَامِ فِي الْخُطْبَةِ دُونَ الْمَأْمُومِ، فَيَكُونُ تَرْكُ الْمَأْمُومِ التَّحِيَّةَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ أَيْضًا قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ مُقَيَّدًا بِحَالِ الْخُطْبَةِ فَلَمْ يَتَنَاوَلِ الْخَطِيبُ.
وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: مَنْعُ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ لَا لِمَنْ خَطَبَ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ وَاسْتِمَاعُ الْخُطْبَةِ.
(الثَّامِنُ) قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً فَائِتَةً كَالصُّبْحِ مَثَلًا قَالَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَوَّاهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الْحَاشِيَةِ وَقَالَ: لَعَلَّهُ ﷺ كَانَ كُشِفَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَفْهَمَهُ مُلَاطَفَةً لَهُ فِي الْخِطَابِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ التَّحِيَّةَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِفْهَامِهِ لِأَنَّهُ قَدْ رَآهُ لَمَّا دَخَلَ. وَقَدْ تَوَلَّى رَدَّهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَكَرَّرْ أَمْرُهُ لَهُ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَمِنْ هَذِهِ الْمَادَّةِ قَوْلُهُمْ: إِنَّمَا أَمَرَهُ بِسُنَّةِ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَمُسْتَنَدُهُمْ قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ سُلَيْكٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ أَصَلَّيْتَ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ مِنَ الْبَيْتِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ صَلَّى فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ فَلَا يُصَلِّ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صَلَاةِ التَّحِيَّةِ لَا يُجِيزُ التَّنَفُّلَ حَالَ الْخُطْبَةِ مُطْلَقًا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ أَيْ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ بِهِ الْآنَ وَفَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ صَلَّاهَا فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ تَقَدَّمَ لِيَقْرَبَ مِنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الَّذِي تَخَطَّى، وَيُؤَكِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَصَلَّيْتَ الرَّكْعَتَيْنِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَهُوَ لِلْعَهْدِ وَلَا عَهْدَ هُنَاكَ أَقْرَبُ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. وَأَمَّا سُنَّةُ الْجُمُعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِ.
(التَّاسِعُ) قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخُطْبَةَ الْمَذْكُورَةَ كَانَتْ لِلْجُمُعَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لِغَيْرِهَا قَوْلُهُ لِلدَّاخِلِ أَصَلَّيْتَ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ اهـ. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ وَقَعَ عَنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فَيَحْتَاجُ إِلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَفِي الَّذِي بَعْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute