أَوْتَرَ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلَّا فِي آخِرِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوَصْلِ، إِلَّا أَنَّا نَخْتَارُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِكَوْنِهِ أَجَابَ بِهِ السَّائِلَ وَلِكَوْنِ أَحَادِيثِ الْفَصْلِ أَثْبَتَ وَأَكْثَرَ طُرُقًا، وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ الرَّدَّ عَلَى الدَّاوُدِيِّ الشَّارِحِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ صَلَّى النَّافِلَةَ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ) اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى خُرُوجِ وَقْتِ الْوِتْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى مِنَ اللَّيْلِ فَلْيَجْعَلْ آخِرَ صَلَاتِهِ وِتْرًا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَأْمُرُ بِذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ الْفَجْرُ فَقَدْ ذَهَبَ كُلُّ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالْوِتْرِ وَفِي صَحِيحِ ابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا مَنْ أَدْرَكَهُ الصُّبْحُ وَلَمْ يُوتِرْ فَلَا وِتْرَ لَهُ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى التَّعَمُّدِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ أَدَاءً، لِمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَيْضًا مَرْفُوعًا: مَنْ نَسِيَ الْوِتْرَ أَوْ نَامَ عَنْهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ - أَيْ وَهُوَ فِي شَفْعٍ - فَلْيَنْصَرِفْ عَلَى وِتْرٍ وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى نِيَّةٍ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ أَنَّ الَّذِي يَخْرُجُ بِالْفَجْرِ وَقْتُهُ الِاخْتِيَارِيُّ وَيَبْقَى وَقْتُ الضَّرُورَةِ إِلَى قِيَامِ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَمَّدَ تَرْكَ الْوِتْرِ حَتَّى يُصْبِحَ، وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ قَضَائِهِ فَنَفَاهُ الْأَكْثَرُ، وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ ﷺ كَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَمْ يَقُمْ مِنَ اللَّيْلِ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: لَمْ نَجِدْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَضَى الْوِتْرَ وَلَا أَمَرَ بِقَضَائِهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ﷺ فِي لَيْلَةِ نَوْمِهِمْ عَنِ الصُّبْحِ فِي الْوَادِي قَضَى الْوِتْرَ فَلَمْ يُصِبْ. وَعَنْ عَطَاءٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ: يَقْضِي وَلَوْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: يَقْضِي مِنَ الْقَابِلَةِ، وَعَنِ الشَّافِعِيَّةِ: يَقْضِي مُطْلَقًا، وَيُسْتَدَلُّ لَهُمْ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَائِدَةٌ): يُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ النَّهَارِ شَرْعًا، وَقَدْ رَوَى ابْنُ دُرَيْدٍ فِي أَمَالِيهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّ الْخَلِيلَ بْنَ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ حَدِّ النَّهَارِ، فَقَالَ: مِنَ الْفَجْرِ الْمُسْتَطِيرِ إِلَى بَدَاءَةِ الشَّفَقِ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ وَقْتٌ مُنْفَرِدٌ لَا مِنَ اللَّيْلِ وَلَا مِنَ النَّهَارِ (١).
قَوْلُهُ: (صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً) فِي رِوَايَةِ الشَّافِعِيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، وَمَكِّيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ مَالِكٍ فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْمُوَطَّآتِ هَكَذَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَسَيَأْتِي بِصِيغَةِ الْأَمْرِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ الثَّانِيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا نَحْوُهُ، وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي مَشْرُوعِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ عَنْ جُلُوسٍ، وَالثَّانِي فِيمَنْ أَوْتَرَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ فِي اللَّيْلِ هَلْ يَكْتَفِي بِوِتْرِهِ الْأَوَّلِ وَلْيَتَنَفَّلْ مَا شَاءَ أَوْ يَشْفَعْ وِتْرَهُ بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يَتَنَفَّلْ ثُمَّ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ هَلْ يَحْتَاجُ إِلَى وِتْرٍ آخَرَ أَوْ لَا؟ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَوَقَعَ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَجَعَلُوا الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ مِنَ اللَّيْلِ وِتْرًا، مُخْتَصًّا بِمَنْ أَوْتَرَ آخِرَ اللَّيْلِ. وَأَجَابَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ بِأَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُمَا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَحَمَلَهُ النَّوَوِيُّ عَلَى أَنَّهُ ﷺ فَعَلَهُ لِبَيَانِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْوِتْرِ وَجَوَازِ التَّنَفُّلِ جَالِسًا.
وَأَمَّا الثَّانِي فَذَهَبَ
(١) هذا القول عن الشعبي باطل، لأن الأدلة الشرعيه دالة على أنه من النهار في حكم الشرع، أعني بذلك ما بعد طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس. والله أعلم
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute