حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: الْقَلِيلُ مَا دُونَ الْمِعْشَارِ وَالسُّدُسِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: ﴿نِصْفَهُ﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ ﴿قَلِيلا﴾، فَكَأَنَّ فِي الْآيَةِ تَخْيِيرًا بَيْنَ قِيَامِ النِّصْفِ بِتَمَامِهِ، أَوْ قِيَامِ أَنْقَصَ مِنْهُ أَوْ أَزْيَدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿نِصْفَهُ﴾ بَدَلًا مِنَ اللَّيْلِ، وَ ﴿إِلا قَلِيلا﴾ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ النِّصْفِ، حَكَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَبِالْأَوَّلِ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ، وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مَعْنَاهُ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ.
قَوْلُهُ: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا﴾ أَيِ: اقْرَأْهُ مُتَرَسِّلًا بِتَبْيِينِ الْحُرُوفِ وَإِشْبَاعِ الْحَرَكَاتِ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: ﴿قَوْلا ثَقِيلا﴾ أَيِ: الْقُرْآنُ. وَعَنِ الْحَسَنِ: الْعَمَلُ بِهِ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْهُ، قَالَ: ثَقِيلًا فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَتَأَوَّلَهُ غَيْرُهُ عَلَى ثِقَلِ الْوَحْيِ حِينَ يَنْزِلُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ.
قَوْلُهُ: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَشَأَ قَامَ بِالْحَبَشِيَّةِ)؛ يَعْنِي: فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ أَيْ: قِيَامُ اللَّيْلِ، وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هُوَ كَلَامُ الْحَبَشَةِ، نَشَأَ: قَامَ. وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَأَبِي مَالِكٍ نَحْوَهُ، وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالُوا: مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ تَوَافُقِ اللُّغَتَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَنَاشِئَةُ اللَّيْلِ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَاعِلَةٍ، مِنْ نَشَأَ إِذَا قَامَ، أَوِ اسْمُ فَاعِلٍ أَيِ النَّفْسُ النَّاشِئَةُ بِاللَّيْلِ، أَيِ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِهَا إِلَى الْعِبَادَةِ، أَيْ تَنْهَضُ. وَحَكَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبَيْنِ أَنَّ كُلَّ مَا حَدَثَ بِاللَّيْلِ وَبَدَأَ فَهُوَ نَاشِئٌ، وَقَدْ نَشَأَ. وَفِي الْمَجَازِ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ آنَاءَ اللَّيْلِ نَاشِئَةٌ بَعْدَ نَاشِئَةٍ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّاعَاتِ النَّاشِئَةَ مِنَ اللَّيْلِ - أَيِ: الْمُقْبِلَةَ بَعْضُهَا فِي أَثَرِ بَعْضٍ - هِيَ أَشَدُّ.
قَوْلُهُ: (وَطَاءً، قَالَ: مُوَاطَأَةً لِلْقُرْآنِ، أَشَدُّ مُوَافَقَةً لِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَقَلْبِهِ) وَهَذَا وَصَلَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَشَدُّ وَطَاءً؛ أَيْ يُوَافِقُ سَمْعَكَ وَبَصَرَكَ وَقَلْبَكَ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالَ الطَّبَرِيُّ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكِ: وَاطَأَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ مُوَاطَأَةً وَوَطَاءً. قَالَ: وَقَرَأَ الْأَكْثَرُ: وَطْئًا؛ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ، ثُمَّ حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ: وَطِئْنَا اللَّيْلَ وَطْئًا؛ أَيْ سِرْنَا فِيهِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ: ﴿أَشَدُّ وَطْئًا﴾؛ أَثْبَتُ فِي الْخَيْرِ. ﴿وَأَقْوَمُ قِيلا﴾: أَبْلَغُ فِي الْحِفْظِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَشَدُّ وَطْئًا؛ أَيْ قِيَامًا. وَأَصْلُ الْوَطْءِ فِي اللُّغَةِ الثِّقَلُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ.
قَوْلُهُ: (لِيُوَاطِئُوا لِيُوَافِقُوا) هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ تَفْسِيرِ (بَرَاءَةً)، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهَا هُنَا تَأْيِيدًا لِلتَّفْسِيرِ الْأَوَّل، وَقَدْ وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكِنْ بِلَفْظِ: لِيُشَابِهُوا.
قَوْلُهُ: ﴿سَبْحًا طَوِيلا﴾؛ أَيْ: فَرَاغًا، وَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَنِ السُّدِّيِّ: سَبْحًا طَوِيلًا؛ أَيْ: تَطَوُّعًا كَثِيرًا، كَأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنَ السُّبْحَةِ؛ وَهِيَ النَّافِلَةُ.
قَوْلُهُ: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) أَيِ: ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَدَنِيُّ، وَحُمَيْدٌ هُوَ الطَّوِيلُ.
قَوْلُهُ: (أَنْ لَا يَصُومَ مِنْهُ) زَادَ أَبُو ذَرٍّ، وَالْأَصِيلِيُّ شَيْئًا.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَرَاهُ مِنَ اللَّيْلِ مُصَلِّيًا إِلَخْ)؛ أَيْ: إِنَّ صَلَاتَهُ وَنَوْمَهُ كَانَ يَخْتَلِفُ بِاللَّيْلِ، وَلَا يُرَتِّبُ وَقْتًا مُعَيَّنًا، بَلْ بِحَسَبِ مَا تَيَسَّرَ لَهُ الْقِيَامُ. وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: كَانَ إِذَا سَمِعَ الصَّارِخَ قَامَ. فَإِنَّ عَائِشَةَ تُخْبِرُ عَمَّا لَهَا عَلَيْهِ اطِّلَاعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كَانَتْ تَقَعُ مِنْهُ غَالِبًا فِي الْبَيْتِ، فَخَبَرُ أَنَسٍ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَقَدْ مَضَى فِي حَدِيثِهَا فِي أَبْوَابِ الْوِتْرِ: مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخُصُّ الْوِتْرَ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ.
قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ، وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ حُمَيْدٍ)؛ كَذَا ثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي اتَّصَلَتْ لَنَا، فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُلَيْمَانُ هُوَ ابْنُ بِلَالٍ، كَمَا جَزَمَ بِهِ خَلَفٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ زَائِدَةً مِنَ النَّاسِخِ، فَإِنَّ أَبَا خَالِدٍ الْأَحْمَرَ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ، وَحَدِيثُهُ فِي هَذَا سَيَأْتِي مَوْصُولًا فِي كِتَابِ الصِّيَامِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.