أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا، فَقِيلَ لَهُ: أَزِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ.
قَوْلُهُ: (بَابُ إِذَا صَلَّى خَمْسًا) قِيلَ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ السَّهْوُ بِالنُّقْصَانِ أَوِ الزِّيَادَةِ، فَفِي الْأَوَّلِ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، كَمَا فِي التَّرْجَمَةِ الْمَاضِيَةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ يَسْجُدُ بَعْدَهُ، وَبِالتَّفْرِقَةِ هَكَذَا، قَالَ مَالِكٌ، وَالْمُزَنِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْخَبْرَيْنِ، قَالَ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلنَّظَرِ، لِأَنَّهُ فِي النَّقْصِ جَبْرٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَفِي الزِّيَادَةِ تَرْغِيمٌ لِلشَّيْطَانِ فَيَكُونَ خَارِجَهَا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ أَوْلَى مِنَ التَّرْجِيحِ وَادِّعَاءِ النَّسْخِ، وَيَتَرَجَّحُ الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ بِالْمُنَاسَبَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةً، وَكَانَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهَا كَانَتْ عِلَّةً، فَيَعُمُّ الْحُكْمُ جَمِيعَ مَحَالِّهَا، فَلَا تُخَصَّصُ إِلَّا بِنَصٍّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ كَوْنَ السُّجُودِ فِي الزِّيَادَةِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ فَقَطْ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ جَبْرٌ أَيْضًا لِمَا وَقَعَ مِنَ الْخَلَلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ زِيَادَةً فَهُوَ نَقْصٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا سَمَّى النَّبِيُّ ﷺ سُجُودَ السَّهْوِ تَرْغِيمًا لِلشَّيْطَانِ فِي حَالَةِ الشَّكِّ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعيْدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَمْ يَرْجِعْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إِلَى فَرْقٍ صَحِيحٍ.
وَأَيْضًا فَقِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ وَقَعَ السُّجُودُ فِيهَا بَعْدَ السَّلَامِ، وَهِيَ عَنْ نُقْصَانٍ، وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: أَقْوَى الْمَذَاهِبِ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ ثُمَّ أَحْمَدَ، فَقَدْ قَالَ غَيْرُهُ: بَلْ طَرِيقُ أَحْمَدَ أَقْوَى، لِأَنَّهُ قَالَ: يُسْتَعْمَلُ كُلُّ حَدِيثٍ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، قَالَ: وَلَوْلَا مَا رُوِيَ عن النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ لَرَأَيْتُهُ كُلَّهُ قَبْلَ السَّلَامِ، لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الصَّلَاةِ، فَيَفْعَلُهُ قَبْلَ السَّلَامِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَحَرَّرَ مَذْهَبَهُ مِنْ قَوْلَيْ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ أَعْدَلُ الْمَذَاهِبِ فِيمَا يَظْهَرُ. وَأَمَّا دَاوُدُ فَجَرَى عَلَى ظَاهِرِيَّتِهِ، فَقَالَ: لَا يُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ إِلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهَا فَقَطْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ سُجُودُ السَّهْوِ كُلُّهُ قَبْلَ السَّلَامِ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كُلُّهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَاعْتَمَدَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى حَدِيثِ الْبَابِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ إِلَّا بَعْدَ السَّلَامِ حِينَ سَأَلُوهُ: هَلْ زِيدَ فِي الصَّلَاةِ؟ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ لِتَعَذُّرِهِ قَبْلَهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالسَّهْوِ، وَإِنَّمَا تَابَعَهُ الصَّحَابَةُ لِتَجْوِيزِهِمُ الزِّيَادَةَ فِي الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ كَانَ زَمَانَ تَوَقُّعِ النَّسْخِ.
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنَ الزِّيَادَةِ، وَهِيَ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لْيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَبْوَابِ الْقِبْلَةِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُهُ: إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى، فَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ، وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ. وَبِهِ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيَّةُ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الصُّورَتَيْنِ عَلَى حَالَتَيْنِ. وَرَجَّحَ الْبَيْهَقِيُّ طَرِيقَةَ التَّخْيِيرِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَفْضَلِ. وَكَذَا أَطْلَقَ النَّوَوِيُّ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ نَقَلَ فِي النِّهَايَةِ الْخِلَافَ فِي الْإِجْزَاءِ عَنِ الْمَذْهَبِ، وَاسْتَبْعَدَ الْقَوْلَ بِالْجَوَازِ، وَكَذَا نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْخِلَافَ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ لَا خِلَافَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ كُلِّهِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ بَعْدَهُ أَنْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَالْخِلَافَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ الْقُدُورِيُّ: لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَصَرَّحَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ بِأَنَّ الْخِلَافَ عِنْدَهُمْ فِي الْأَوْلَوِيَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُقْنِعِ مَنْ تَرَكَ سُجُودَ السَّهْوِ الَّذِي قَبْلَ السَّلَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إِنْ تَعَمَّدَ، وَإِلَّا فَيَتَدَارَكُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute