ذِكْرِ الْحَجْبِ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، وَأَمَّا الثَّالِثُ، فَالْمُرَادُ بِالْوُلُوجِ الْوُرُودُ، وَهُوَ الْمُرُورُ عَلَى النَّارِ كَمَا سَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ. وَالْمَارُّ عَلَيْهَا عَلَى أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَسْمَعُ حَسِيسَهَا، وَهُمُ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الْحُسْنَى مِنَ اللَّهِ كَمَا فِي الْقُرْآنِ، فَلَا تَنَافِيَ مَعَ هَذَا بَيْنَ الْوُلُوجِ وَالْحَجْبِ، وَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ: وَلَدٍ لِيَتَنَاوَلَ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا، وَإِنْ كَانَ حَدِيثُ الْبَابِ قَدْ قُيِّدَ بِثَلَاثَةٍ أَوِ اثْنَيْنِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ ذِكْرُ الْوَاحِدِ فَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ دَفَنَ ثَلَاثَةً فَصَبَرَ عَلَيْهِمْ وَاحْتَسَبَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَتْ أُمُّ أَيْمَنَ: أَوِ اثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: أَوِ اثْنَيْنِ. فَقَالَتْ: وَوَاحِدٌ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: وَوَاحِدٌ. أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً مِنَ الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا مِنَ النَّارِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ. قَالَ: وَاثْنَيْنِ. قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا. قَالَ: وَوَاحِدًا. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: غَرِيبٌ.
وَعِنْدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ: مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ؟ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ. الْحَدِيثَ. وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ مَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ، بَلْ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ الَّتِي عَلَّقَ الْمُصَنِّفُ إِسْنَادَهَا كَمَا سَيَأْتِي، وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ، وَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَالَتْ: وَاثْنَانِ، قَالَتْ بَعْدَ ذَلِكَ: يَا لَيْتَنِي قُلْتُ: وَوَاحِدٌ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ، عَنْ جَابِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلَاثٌ مِنَ الْوَلَدِ فَاحْتَسَبَهُمْ دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاثْنَانِ؟ قَالَ مَحْمُودٌ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: أُرَاكُمْ لَوْ قُلْتُمْ: وَوَاحِدٌ لَقَالَ: وَوَاحِدٌ. قَالَ: وَأَنَا أَظُنُّ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ، لَكِنْ رَوَى الْمُصَنِّفُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الرِّقَاقِ مَرْفُوعًا: يَقُولُ اللَّهُ ﷿: مَا لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إِلَّا الْجَنَّةَ.
وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ، وَهُوَ أَصَحُّ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: فَاحْتَسَبَ؛ أَيْ صَبَرَ رَاضِيًا بِقَضَاءِ اللَّهِ رَاجِيًا فَضْلَهُ، وَلَمْ يَقَعِ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي أَحَادِيثِ الْبَابِ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَيْضًا كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ، وَالنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسٍ رَفَعَهُ: مَنِ احْتَسَبَ مِنْ صُلْبِهِ ثَلَاثَةً دَخَلَ الْجَنَّةَ. الْحَدِيثَ.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ مَرْفُوعًا: لَا يَمُوتُ لِإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ. الْحَدِيثَ. وَلِأَحْمَدَ، وَالطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَفَعَهُ: مَنْ أَعْطَى ثَلَاثَةً مِنْ صُلْبِهِ فَاحْتَسَبَهُمْ عَلَى اللَّهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ. وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي النَّضْرِ السُّلَمِيِّ رَفَعَهُ: لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ إِلَّا كَانُوا جُنَّةً مِنَ النَّارِ. الْحَدِيثَ. وَقَدْ عُرِفَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ إِلَّا عَلَى النِّيَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدِ الِاحْتِسَابِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ، وَلَكِنْ أَشَارَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ إِلَى اعْتِرَاضٍ لَفْظِيٍّ، فَقَالَ: يُقَالُ فِي الْبَالِغِ: احْتَسَبَ، وَفِي الصَّغِيرِ: افْتَرَطَ. انْتَهَى. وَبِذَلِكَ قَالَ الْكَثِيرُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُسْتَعْمَلَ هَذَا مَوْضِعَ هَذَا، بَلْ ذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ: احْتَسَبَ فُلَانٌ بِكَذَا: طَلَبَ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِكَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ حُجَّةٌ فِي صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُ اللَّهِ ﷿: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ فِي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ وَالْأَصِيلِيِّ: وَقَالَ اللَّهُ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ، وَقَدْ وُصِفَ فِيهَا الصَّابِرُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ تَقْيِيدَ مَا أُطْلِقَ فِي الْحَدِيثِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَرْكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute