مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ"
قَوْلُهُ: (بَابُ مَا جَاءَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ) لَمْ يَتَعَرَّضِ الْمُصَنِّفُ فِي التَّرْجَمَةِ لِكَوْنِ عَذَابِ الْقَبْرِ يَقَعُ عَلَى الرُّوحِ فَقَطْ، أَوْ عَلَيْهَا وَعَلَى الْجَسَدِ، وَفِيهِ خِلَافٌ شَهِيرٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي يَرْضَاهَا لَيْسَتْ قَاطِعَةً فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، فَلَمْ يَتَقَلَّدِ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ وَاكْتَفَى بِإِثْبَاتِ وُجُودِهِ، خِلَافًا لِمَنْ نَفَاهُ مُطْلَقًا مِنَ الْخَوَارِجِ وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ كَضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمَا، وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَكْثَرُوا مِنَ الِاحْتِجَاجِ لَهُ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجَيَّانِيِّ إِلَى أَنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْكُفَّارِ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ تَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى عَذَابِ الْقَبْرِ، أَيْ: مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ. وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَدَّمَ ذِكْرَ هَذِهِ الْآيَاتِ؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى ثُبُوتِ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ، خِلَافًا لِمَنْ رَدَّهُ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ إِلَّا مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ، فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ قَالَ: هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَالْبَسْطُ: الضَّرْبُ؛ ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ انْتَهَى. وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقِتَالِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدَّفْنِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَذَابِ الْوَاقِعِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ الْعَذَابُ إِلَى الْقَبْرِ؛ لِكَوْنِ مُعْظَمِهِ يَقَعُ فِيهِ، وَلِكَوْنِ الْغَالِبِ عَلَى الْمَوْتَى أَنْ يُقْبَرُوا، وَإِلَّا فَالْكَافِرُ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ مِنَ الْعُصَاةِ يُعَذَّبُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ لَمْ يُدْفَنْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مَحْجُوبٌ عَنِ الْخَلْقِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: اخْرُجْ يَا فُلَانُ؛ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَفَضَحَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ. فَهَذَا الْعَذَابُ الْأَوَّلُ، وَالْعَذَابُ الثَّانِي عَذَابُ الْقَبْرِ. وَرَوَيَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ نَحْوُهُ، وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ: ﴿سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ﴾ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْقَبْرِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: بَلَغَنِي فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ اخْتِلَافًا عَنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ: وَالْأَغْلَبُ أَنَّ إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَالْأُخْرَى تَحْتَمِلُ أَحَدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْجُوعِ أَوِ السَّبْيِ أَوِ الْقَتْلِ أَوِ الْإِذْلَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ﴾ الْآيَةَ) رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي طُيُورٍ سُودٍ تَغْدُو وَتَرُوحُ عَلَى النَّارِ، فَذَلِكَ عَرْضُهَا. وَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ فَذَكَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فِيهِ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ بَابَيْنِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْعَرْضَ يَكُونُ فِي الْبَرْزَخِ، وَهُوَ حُجَّةٌ فِي تَثْبِيتِ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: وَقَعَ ذِكْرُ عَذَابِ الدَّارَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُفَسَّرًا مُبَيَّنًا، لَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ مُطْلَقًا لَا عَلَى مَنْ خَصَّهُ بِالْكُفَّارِ. وَاسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ فِرَاقِ الْأَجْسَادِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ كَمَا سَيَأْتِي. وَاحْتُجَّ بِالْآيَةِ الْأُولَى عَلَى أَنَّ النَّفْسَ وَالرُّوحَ شَيْءٌ وَاحِدٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ وَالْمُرَادُ الْأَرْوَاحُ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَشْهُورَةٌ فِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَسَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا فِي التَّفْسِيرِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ الْآيَةَ.
ثُمَّ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ فِي الْبَابِ سِتَّةَ أَحَادِيثَ:
أَوَّلُهَا: حَدِيثُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute