بِإِسْلَامِهِ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ لِبَيَانِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَا لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ أَنَّ آخِرَ قَوْلَيْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْإِسْلَامُ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَقَدْ جَاءَ عَنْ أَحْمَدَ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ يُحْتَجُّ فِيهَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ بِأَبَوَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ فَهُوَ مُسْلِمٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ، حَيْثُ قَالَ: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ وَنَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَنْ سَحْنُونٍ، وَنَقَلَهُ أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ عَنْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْمَيْمُونِيُّ عَنْهُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّةَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ إِسْلَامِ الصَّبِيِّ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ، ثُمَّ يَقُولُ: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ - إِلَى قَوْلِهِ -: ﴿الْقَيِّمُ﴾ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ أُدْرِجَ فِي الْخَبَرِ، بَيَّنَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَفْظُهُ: ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: ذِكْرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ هَذَا الْحَدِيثِ يُقَوِّي مَا أَوَّلَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ التَّعْرِيفَ فِي قَوْلِهِ: عَلَى الْفِطْرَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْهُودٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ﴾ وَمَعْنَى الْمَأْمُورِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾؛ أَيِ: اثْبُتْ عَلَى الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. ثَانِيهَا وُرُودُ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ الْمِلَّةِ بَدَلَ الْفِطْرَةِ، وَالدِّينِ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ هُوَ عَيْنُ الْمِلَّةِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عِيَاضٍ الْمُتَقَدِّمِ. ثَالِثُهَا التَّشْبِيهُ بِالْمَحْسُوسِ الْمُعَايَنِ لِيُفِيدَ أَنَّ ظُهُورَهُ يَقَعُ فِي الْبَيَانِ مَبْلَغَ هَذَا الْمَحْسُوسِ، قَالَ. وَالْمُرَادُ تَمَكُّنُ النَّاسِ مِنَ الْهُدَى فِي أَصْلِ الْجِبِلَّةِ، وَالتَّهَيُّؤِ لِقَبُولِ الدِّينِ، فَلَوْ تُرِكَ الْمَرْءُ عَلَيْهَا لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِهَا، وَلَمْ يُفَارِقْهَا إِلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ حُسْنَ هَذَا الدِّينِ ثَابِتٌ فِي النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا يُعْدَلُ عَنْهُ لِآفَةٍ مِنَ الْآفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ كَالتَّقْلِيدِ. انْتَهَى. وَإِلَى هَذَا مَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ مُؤَهَّلَةً لِقَبُولِ الْحَقِّ، كَمَا خَلَقَ أَعْيُنَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ قَابِلَةً لِلْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَةً عَلَى ذَلِكَ الْقَبُولِ وَعَلَى تِلْكَ الْأَهْلِيَّةِ أَدْرَكَتِ الْحَقَّ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ: كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ.
يَعْنِي أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَلِدُ الْوَلَدَ كَامِلَ الْخِلْقَةِ، فَلَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ كَانَ بَرِيئًا مِنَ الْعَيْبِ، لَكِنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِقَطْعِ أُذُنِهِ مَثَلًا، فَخَرَجَ عَنِ الْأَصْلِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ وَاقِعٌ وَوَجْهُهُ وَاضِحٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ. أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَعْلَمُ الدِّينَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فِطْرَتَهُ مُقْتَضِيَةٌ لِمَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَحَبَّتِهِ، فَنَفْسُ الْفِطْرَةِ تَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ وَالْمَحَبَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ قَبُولِ الْفِطْرَةِ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَهْوِيدِ الْأَبَوَيْنِ مَثَلًا، بِحَيْثُ يُخْرِجَانِ الْفِطْرَةَ عَنِ الْقَبُولِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، فَلَوْ خُلِّيَ وَعَدَمُ الْمُعَارِضِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَحَبَّةِ مَا يُلَائِمُ بَدَنَهُ مِنِ ارْتِضَاعِ اللَّبَنِ حَتَّى يَصْرِفَهُ عَنْهُ الصَّارِفُ، وَمِنْ ثَمَّ شُبِّهَتِ الْفِطْرَةُ بِاللَّبَنِ، بَلْ كَانَتْ إِيَّاهُ فِي تَأْوِيلِ الرُّؤْيَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ ذَكَرَهَا ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ: مِنْهَا قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ: إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ، فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا وُلِدَ عَلَى الْكُفْرِ، فَكَأَنَّهُ أَوَّلَ الْفِطْرَةَ بِالْعِلْمِ. وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ إِلَخْ مَعْنًى؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِهِ مَا هُوَ الْفِطْرَةُ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا، فَيُنَافِي فِي التَّمْثِيلِ بِحَالِ الْبَهِيمَةِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ فِيهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِنْكَارَ، فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ مِنَ الذُّرِّيَّةِ قَالُوا جَمِيعًا: (بَلَى) أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَقَالُوهَا طَوْعًا، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَقَالُوهَا كَرْهًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَيُرَجِّحُهُ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute