وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ إِلَّا عَنِ السُّدِّيِّ وَلَمْ يُسْنِدْهُ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، حَكَاهُ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ شَيْخِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ الْخِلْقَةُ، أَيْ: يُولَدُ سَالِمًا لَا يَعْرِفُ كُفْرًا وَلَا إِيمَانًا، ثُمَّ يَعْتَقِدُ إِذَا بَلَغَ التَّكْلِيفَ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَقَالَ: إِنَّهُ يُطَابِقُ التَّمْثِيلَ بِالْبَهِيمَةِ، وَلَا يُخَالِفُ حَدِيثَ عِيَاضٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: (حَنِيفًا)؛ أَيْ: عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرْ فِي أَحْوَالِ التَّبْدِيلِ عَلَى مِلَلِ الْكُفْرِ دُونَ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِشْهَادِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْآيَةِ مَعْنًى. وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ اللَّامَ فِي الْفِطْرَةِ لِلْعَهْدِ، أَيْ: فِطْرَةُ أَبَوَيْهِ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ بِمَا ذُكِرَ فِي الَّذِي قَبْلَهُ. وَيُؤَيِّدُ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ. إِلَخْ، لَيْسَ فِيهِ لِوُجُودِ الْفِطْرَةِ شَرْطٌ، بَلْ ذُكِرَ مَا يَمْنَعُ مُوجِبَهَا، كَحُصُولِ الْيَهُودِيَّةِ مَثَلًا مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَشْيَاءَ خَارِجَةٍ عَنِ الْفِطْرَةِ، بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: سَبَبُ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى الْفِطْرَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِهِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ لَيْسَا بِقَضَاءِ اللَّهِ بَلْ مِمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ إِحْدَاثَهُ، فَحَاوَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مُخَالَفَتَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْفِطْرَةِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَى الْإِسْلَامِ، وَلَا حَاجَةَ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ الْمَنْقُولَةَ عَنِ السَّلَفِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ لَفْظِ الْفِطْرَةِ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى ذَلِكَ مُوَافَقَةُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ. إِلَخْ.
مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ثَمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ.
قَوْلُهُ: (فَأَبَوَاهُ) أَيِ: الْمَوْلُودُ، قَالَ الطِّيبِيُّ: الْفَاءُ إِمَّا لِلتَّعْقِيبِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ أَوْ جَزَاءُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ تَغَيَّرَ كَانَ بِسَبَبِ أَبَوَيْهِ، إِمَّا بِتَعْلِيمِهِمَا إِيَّاهُ أَوْ بِتَرْغِيبِهِمَا فِيهِ، وَكَوْنُهُ تَبَعًا لَهُمَا فِي الدِّينِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهُمَا. وَخُصَّ الْأَبَوَانِ بِالذِّكْرِ لِلْغَالِبِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ حَكَمَ بِإِسْلَامِ الطِّفْلِ الَّذِي يَمُوتُ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، فَقَدِ اسْتَمَرَّ عَمَلُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِأَطْفَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
قَوْلُهُ: (كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ) أَيْ: تَلِدُهَا، فَالْبَهِيمَةُ الثَّانِيَةُ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بِلَفْظِ: كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: كَمَا حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي يُهَوِّدَانِهِ؛ أَيْ: يُهَوِّدَانِ الْمَوْلُودَ بَعْدَ أَنْ خُلِقَ عَلَى الْفِطْرَةِ تَشْبِيهًا بِالْبَهِيمَةِ الَّتِي جُدِعَتْ بَعْدَ أَنْ خُلِقَتْ سَلِيمَةً، أَوْ هُوَ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: يُغَيِّرَانِهِ تَغْيِيرًا مِثْلَ تَغْيِيرِهِمُ الْبَهِيمَةَ السَّلِيمَةَ، قَالَ: وَقَدْ تَنَازَعَتِ الْأَفْعَالُ الثَّلَاثَةُ فِي كَمَا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.
قَوْلُهُ: (تُنْتَجُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ النُّونِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَهَا جِيمٌ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: نُتِجَتِ النَّاقَةُ عَلَى صِيغَةِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، تُنْتَجُ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ، وَأَنْتَجَ الرَّجُلُ نَاقَتَهُ يُنْتِجُهَا إِنْتَاجًا، زَادَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: بَهِيمَةً جَمْعَاءَ. أَيْ: لَمْ يَذْهَبْ مِنْ بَدَنِهَا شَيْءٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ أَعْضَائِهَا.
قَوْلُهُ: (هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ؟) قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ سَلِيمَةً: مَقُولًا فِي حَقِّهَا ذَلِكَ، وَفِيهِ نَوْعُ التَّأْكِيدِ، أَيْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهَا قَالَ ذَلِكَ لِظُهُورِ سَلَامَتِهَا. وَالْجَدْعَاءُ: الْمَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَصْمِيمَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ كَانَ بِسَبَبِ صَمَمِهِمْ عَنِ الْحَقِّ. وَوَقَعَ فِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِلَفْظِ: هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ وَهُوَ مِنَ الْإِحْسَاسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، يُرِيدُ أَنَّهَا تُولَدُ لَا جَدْعَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَجْدَعُهَا أَهْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أَيْ: لِدِينِ اللَّهِ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ.
(تَنْبِيهٌ): ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي عَنِ ابْنِ هِشَامٍ الْخَضْرَاوِيِّ أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْحَدِيثَ شَاهِدًا لِوُرُودِ حَتَّى لِلِاسْتِثْنَاءِ، فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ. وَقَالَ: وَلَكَ أَنْ تُخَرِّجَهُ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَذْفًا، أَيْ: يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ، يَعْنِي فَتَكُونُ لِلْغَايَةِ عَلَى بَابِهَا. انْتَهَى. وَمَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّهُ ضَمَّنَ يُولَدُ مَعْنَى