للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الصَّدَقَةُ - فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَصَدَّقَ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لَا يَزَالُ نَظَرُ اللَّهِ إِلَيْهَا يُكْسِبُهَا نَعْتَ الْكَمَالِ حَتَّى تَنْتَهِيَ بِالتَّضْعِيفِ إِلَى نِصَابٍ تَقَعُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَدَّمَ نِسْبَةَ مَا بَيْنَ التَّمْرَةِ إِلَى الْجَبَلِ. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ: فَلُوَّهُ أَوْ مُهْرَهُ، وَلِعَبْدِ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْقَاسِمِ: مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عِنْدَ الْبَزَّارِ: مُهْرَهُ أَوْ رَضِيعَهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وَلِابْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَلُوَّهُ أَوْ قَالَ: فَصِيلَهُ، وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ وَشِبْهُهُ إِنَّمَا عَبَّرَ بِهِ عَلَى مَا اعْتَادُوا فِي خِطَابِهِمْ لِيَفْهَمُوا عَنْهُ فَكَنَّى عَنْ قَبُولِ الصَّدَقَةِ بِالْيَمِينِ، وَعَنْ تَضْعِيفِ أَجْرِهَا بِالتَّرْبِيَةِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: لَمَّا كَانَ الشَّيْءُ الَّذِي يُرْتَضَى يُتَلَقَّى بِالْيَمِينِ، وَيُؤْخَذُ بِهَا اسْتُعْمِلَ فِي مِثْلِ هَذَا، وَاسْتُعِيرَ لِلْقَبُولِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ:

تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ

أَيْ هُوَ مُؤَهَّلٌ لِلْمَجْدِ وَالشَّرَفِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْجَارِحَةَ (١)، وَقِيلَ: عَبَّرَ بِالْيَمِينِ عَنْ جِهَةِ الْقَبُولِ، إِذِ الشِّمَالُ بِضِدِّهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَمِينُ الَّذِي تُدْفَعُ إِلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَأَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ مِلْكٍ وَاخْتِصَاصٍ لِوَضْعِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي يَمِينِ الْآخِذِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: الْمُرَادُ سُرْعَةُ الْقَبُولِ، وَقِيلَ: حُسْنُهُ. وَقَالَ الزَّيْنُ بْنُ الْمُنِيرِ: الْكِنَايَةُ عَنِ الرِّضَا وَالْقَبُولِ بِالتَّلَقِّي بِالْيَمِينِ لِتَثْبِيتِ الْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ مِنَ الْأَذْهَانِ وَتَحْقِيقِهَا فِي النُّفُوسِ تَحْقِيقَ الْمَحْسُوسَاتِ، أَيْ لَا يَتَشَكَّكُ فِي الْقَبُولِ كَمَا لَا يَتَشَكَّكُ مَنْ عَايَنَ التَّلَقِّيَ لِلشَّيْءِ بِيَمِينِهِ، لَا أَنَّ التَّنَاوُلَ كَالتَّنَاوُلِ الْمَعْهُودِ، وَلَا أَنَّ الْمُتَنَاوِلَ بِهِ جَارِحَةٌ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ نُؤْمِنُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَلَا نَتَوَهَّمُ فِيهَا تَشْبِيهًا وَلَا نَقُولُ كَيْفَ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْكَرَتِ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ. انْتَهَى. وَسَيَأْتِي الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: حَتَّى تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ. وَلِابْنِ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الْقَاسِمِ: حَتَّى يُوَافِيَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أُحُدٍ. يَعْنِي التَّمْرَةَ. وَهِيَ فِي رِوَايَةِ الْقَاسِمِ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ بِلَفْظِ: حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ، قَالَ: وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلَاوَةَ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَزَادَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ أَيْضًا: فَتَصَدَّقُوا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِعِظَمِهَا أَنَّ عَيْنَهَا تَعْظُمُ لِتَثْقُلَ فِي الْمِيزَانِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُعَبَّرًا بِهِ عَنْ ثَوَابِهَا.

قَوْلُهُ: (تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ) هُوَ ابْنُ بِلَالٍ (عَنِ ابْنِ دِينَارٍ) أَيْ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذِهِ الْمُتَابَعَةُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْحِيدِ فَقَالَ: وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ فَسَاقَ مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً فِي اللَّفْظِ يَسِيرَةً، وَقَدْ وَصَلَهُ أَبُو عَوَانَةَ، وَالْجَوْزَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ. وَوَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَلَمْ يَسُقْ لَفْظَهُ كُلَّهُ، وَهَذَا إِنْ كَانَ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ حَفِظَهُ فَلِسُلَيْمَانَ فِيهِ شَيْخَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَسُهَيْلٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَدْ غَفَلَ صَاحِبُ الْأَطْرَافِ فَسَوَّى بَيْنَ رِوَايَتَيِ الصَّحِيحَيْنِ فِي هَذَا وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ.

قَوْلُهُ: (وَقَالَ وَرْقَاءُ) هُوَ ابْنُ عُمَرَ (عَنِ ابْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) يَعْنِي أَنَّ وَرْقَاءَ خَالَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ، فَجَعَلَ شَيْخَ ابْنِ دِينَارٍ فِيهِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ بَدَلَ أَبِي صَالِحٍ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى رِوَايَةِ وَرْقَاءَ هَذِهِ مَوْصُولَةً، وَقَدْ أَشَارَ الدَّاوُدِيُّ


(١) هذ التأويلات ليس لها وجه، والصواب إجراء الحديث على ظاهره، وليس في ذلك بحمد الله محذوف عند أهل السنة والجماعة لأن عقيدتهم الإيمان بما جاء في الكتاب والسنة الصحيحة من أسماء الله سبحانه وصفاته، وإثبات ذلك لله على وجه الكمال مع تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقات، وهذا هو الحق الذي لا يجوز العدول عنه. وفي هذا الحديث دلالة على إثبات اليمين لله سبحانه وعلى أنه يقبل الصدقة عن الكسب الطيب ويضاعفها. وانظر ما يأتي من كلام الإمام الترمذي يتضح لك ما ذكرته آنفا. والله الموفق