مِنْ غُلُولٍ أَنَّ الْغَالَّ لَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ إِلَّا بِرَدِّ الْغُلُولِ إِلَى أَصْحَابِهِ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ (١) إِذَا جَهِلَهُمْ مَثَلًا، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ حَقِّ الْغَانِمِينَ، فَلَوْ جُهِلَتْ أَعْيَانُهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: وَقَعَ هُنَا لِلْمُسْتَمْلِي، وَالْكُشْمِيهَنِيِّ، وَابْنِ شَبُّوَيْهِ
بَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ - إِلَى قَوْلِهِ - ﴿وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ وَعَلَى هَذَا فَتَخْلُو التَّرْجَمَةُ الَّتِي قَبْلَ هَذَا مِنَ الْحَدِيثِ، وَتَكُونُ كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْآيَةِ، لَكِنْ تَزِيدُ عَلَيْهَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى لَفْظِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التَّرْجَمَةِ. وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِيثِ لِهَذِهِ التَّرْجَمَةِ ظَاهِرَةٌ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلَّتِي قَبْلَهَا مِنْ جِهَةِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، لِأَنَّهُ دَلَّ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا لَيْسَ بِطَيِّبٍ لَا يُقْبَلُ، وَالْغُلُولُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ غَيْرِ الطَّيِّبِ فَلَا يُقْبَلُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ إِنْ كَانَ بَابُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فَالْجُمْلَةُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا بَابُ فَضْلِ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَإِنْ كَانَ مُنَوَّنًا فَمَا بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الصَّدَقَةُ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ مَقْبُولَةٌ أَوْ يُكْثِرُ اللَّهُ ثَوَابَهَا. وَمَعْنَى الْكَسْبِ الْمَكْسُوبُ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ تَعَاطِي التَّكَسُّبِ أَوْ حُصُولِ الْمَكْسُوبِ بِغَيْرِ تَعَاطٍ كَالْمِيرَاثِ. وَكَأَنَّهُ ذَكَرَ الْكَسْبَ لِكَوْنِهِ الْغَالِبَ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِالطَّيِّبِ الْحَلَالُ، لِأَنَّهُ صِفَةُ الْكَسْبِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ الطَّيِّبِ الْمُسْتَلَذُّ بِالطَّبْعِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْمُطْلَقِ بِالشَّرْعِ وَهُوَ الْحَلَالُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: الصَّدَقَةُ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ.
فَقَدِ اعْتَرَضَهُ ابْنُ التِّينِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ تَكْثِيرَ أَجْرِ الصَّدَقَةِ لَيْسَ عِلَّةً لِكَوْنِ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، بَلِ الْأَمْرُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ سَبَبٌ لِتَكْثِيرِ الْأَجْرِ. قَالَ ابْنُ التِّينِ: وَكَانَ الْأَبْيَنُ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ﴾ وَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ: لَمَّا كَانَتِ الْآيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى أَنَّ الرِّبَا يَمْحَقُهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الَّتِي تُتَقَبَّلُ لَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَمْحُوقِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: لَفْظُ الصَّدَقَاتِ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ وَمِنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالصَّدَقَاتِ الَّتِي مِنَ الْكَسْبِ الطَّيِّبِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، نَحْوَ: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ﴾
قَوْلُهُ: (بِعَدْلِ تَمْرَةٍ) أَيْ بِقِيمَتِهَا، لِأَنَّهُ بِالْفَتْحِ الْمِثْلُ، وَبِالْكَسْرِ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ، هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: بِالْفَتْحِ الْمِثْلُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَبِالْكَسْرِ مِنْ جِنْسِهِ، وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ مِثْلُهُ فِي الْقِيمَةِ، وَبِالْكَسْرِ فِي النَّظَرِ. وَأَنْكَرَ الْبَصْرِيُّونَ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا بِمَعْنًى كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْمِثْلِ لَا يَخْتَلِفُ. وَضُبِطَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِلْأَكْثَرِ بِالْفَتْحِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ) فِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ الْآتِي ذِكْرُهَا: وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ. وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهُ، زَادَ سُهَيْلٌ فِي رِوَايَتِهِ الْآتِي ذِكْرُهَا: فَيَضَعُهَا فِي حَقِّهَا. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَإِنَّمَا لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّدَقَةَ بِالْحَرَامِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمُتَصَدِّقِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَالْمُتَصَدَّقُ بِهِ مُتَصَرَّفٌ فِيهِ، فَلَوْ قُبِلَ مِنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: (يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ) فِي رِوَايَةِ سُهَيْلٍ: إِلَّا أَخَذَهَا بِيَمِينِهِ. وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ الْآتِي ذِكْرُهَا: فَيَقْبِضُهَا وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ: فَيَتَلَقَّاهَا الرَّحْمَنُ بِيَدِهِ.
قَوْلُهُ: (فَلُوَّهُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ، وَهُوَ الْمُهْرُ لِأَنَّهُ يُفْلَى أَيْ: يُفْطَمُ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ فَطِيمٍ مِنْ ذَاتِ حَافِرٍ، وَالْجَمْعُ أَفْلَاءٌ كَعَدُوٍّ وَأَعْدَاءٍ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: إِذَا فَتَحْتَ الْفَاءَ شَدَّدْتَ الْوَاوَ، وَإِذَا كَسَرْتَهَا سَكَّنْتَ اللَّامَ كَجِرْوٍ. وَضَرَبَ بِهِ الْمَثَلَ لِأَنَّهُ يَزِيدُ زِيَادَةً بَيِّنَةً، وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ نِتَاجُ الْعَمَلِ، وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ النِّتَاجُ إِلَى التَّرْبِيَةِ إِذَا كَانَ فَطِيمًا، فَإِذَا أَحْسَنَ الْعِنَايَةَ بِهِ انْتَهَى إِلَى حَدِّ الْكَمَالِ، وَكَذَلِكَ عَمَلُ ابْنِ آدَمَ - لَا سِيَّمَا
(١) كذا في الأصل الذي بأيدينا، ولعله "لا بأن يتصدق به" فتأمل، والله أعلم