الْجَوْزِيِّ: وَإِنَّمَا يَقُولُهُ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَنْ لَا يَعْرِفُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ الْعُكْبَرِيُّ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِهْلَالِ، كَالْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ بِمَعْنَى الْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ فَإِنَّهُ سَيَأْتِي بِلَفْظِ: مُهَلِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَابِ فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ وَقَّتَ أَيْ حَدَّدَ، وَأَصْلُ التَّوْقِيتِ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَكَانِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: التَّوْقِيتُ وَالتَّأْقِيتُ أَنْ يُجْعَلَ لِلشَّيْءِ وَقْتٌ يَخْتَصُّ بِهِ، وَهُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ الْمُدَّةِ، يُقَالُ: وَقَّتَ الشَّيْءَ بِالتَّشْدِيدِ يُوَقِّتُهُ، وَوَقَتَ بِالتَّخْفِيفِ يَقِتُهُ إِذَا بَيَّنَ مُدَّتَهُ، ثُمَّ اتَّسَعَ فِيهِ فَقِيلَ لِلْمَوْضِعِ: مِيقَاتٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: قِيلَ: إِنَّ التَّوْقِيتَ فِي اللُّغَةِ التَّحْدِيدُ وَالتَّعْيِينُ، فَعَلَى هَذَا فَالتَّحْدِيدُ مِنْ لَوَازِمِ الْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَقَّتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّحْدِيدُ؛ أَيْ حَدَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ لِلْإِحْرَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ تَعْلِيقُ الْإِحْرَامِ بِوَقْتِ الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْأَمَاكِنِ بِالشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ. وَقَالَ عِيَاضٌ: وَقَّتَ أَيْ حَدَّدَ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَوْجَبَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الْمَاضِيَةُ بِلَفْظِ: فَرَضَ.
قَوْلُهُ: (وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ)؛ أَيْ مَدِينَتَهُ ﵊.
قَوْلُهُ: (ذَا الْحُلَيْفَةِ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْفَاءِ مُصَغَّرًا مَكَانٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِائَتَا مِيلٍ غَيْرِ مِيلَيْنِ؛ قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ: بَيْنَهُمَا عَشْرُ مَرَاحِلَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سِتَّةٌ أَمْيَالٍ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ: بَيْنَهُمَا مِيلٌ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ ابْنُ الصَّبَّاغِ. وَبِهَا مَسْجِدٌ يُعْرَفُ بِمَسْجِدِ الشَّجَرَةِ خَرَابٌ، وَبِهَا بِئْرٌ يُقَالُ لَهَا: بِئْرُ عَلِيٍّ.
قَوْلُهُ: (الْجُحْفَةَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ قَرْيَةٌ خَرِبَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ خَمْسُ مَرَاحِلَ أَوْ سِتَّةٌ، وَفِي قَوْلِ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، نَظَرٌ. وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا مَهْيَعَةُ بِوَزْنِ عَلْقَمَةُ، وَقِيلَ: بِوَزْنِ لَطِيفَةٍ، وَسُمِّيَتِ الْجُحْفَةَ لِأَنَّ السَّيْلَ أَجْحَفَ بِهَا، قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ: كَانَ الْعَمَالِيقُ يَسْكُنُونَ يَثْرِبَ، فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَنِي عَبِيلٍ - بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُمْ أخْوَةُ عَادٍ - حَرْبٌ، فَأَخْرَجُوهُمْ مِنْ يَثْرِبَ، فَنَزَلُوا مَهْيَعَةَ، فَجَاءَ سَيْلٌ فَاجْتَحَفَهُمْ أَيِ اسْتَأْصَلَهُمْ، فَسُمِّيَتِ الْجُحْفَةَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ النَّسَائِيِّ: وَلِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ الْجُحْفَةَ. وَالْمَكَانُ الَّذِي يُحْرِمُ مِنْهُ الْمِصْرِيُّونَ الْآنَ رَابِغُ بِوَزْنِ فَاعِلٍ؛ بِرَاءٍ وَمُوَحَّدَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ، قَرِيبٌ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَاخْتَصَّتِ الْجُحْفَةُ بِالْحُمَّى فَلَا يَنْزِلُهَا أَحَدٌ إِلَّا حُمَّ، كَمَا سَيَأْتِي فِي فَضَائِلِ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ) أَمَّا نَجْدٌ فَهُوَ كُلُّ مَكَانٍ مُرْتَفِعٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِعَشْرَةِ مَوَاضِعَ، وَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا الَّتِي أَعْلَاهَا تِهَامَةُ وَالْيَمَنُ وَأَسْفَلُهَا الشَّامُ وَالْعِرَاقُ. وَالْمَنَازِلُ بِلَفْظِ جَمْعِ الْمَنْزِلِ، وَالْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ هُوَ اسْمُ الْمَكَانِ، وَيُقَالُ لَهُ: قَرْنٌ أَيْضًا بِلَا إِضَافَةٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا نُونٌ، وَضَبَطَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَغَلَّطُوهُ، وَبَالَغَ النَّوَوِيُّ فَحَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى تَخْطِئَتِهِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ حَكَى عِيَاضٌ تَعْلِيقَ الْقَابِسِيِّ أَنَّ مَنْ قَالَهُ بِالْإِسْكَانِ أَرَادَ الْجَبَلَ، وَمَنْ قَالَهُ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الطَّرِيقَ، وَالْجَبَلُ الْمَذْكُورُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ مَرْحَلَتَانِ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ عَنْ بَعْضِ قُدَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: قَرْنٌ، مَوْضِعَانِ: أَحَدُهُمَا فِي هُبُوطٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: قَرْنُ الْمَنَازِلِ. وَالْآخَرُ فِي صُعُودٍ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: قَرْنُ الثَّعَالِبِ، وَالْمَعْرُوفُ الْأَوَّلُ. وَفِي أَخْبَارِ مَكَّةَ لِلْفَاكِهِيِّ أَنَّ قَرْنَ الثَّعَالِبِ جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى أَسْفَلِ مِنًى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْجِدِ مِنًى أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَقِيلَ لَهُ: قَرْنُ الثَّعَالِبِ؛ لِكَثْرَةِ مَا كَانَ يَأْوِي إِلَيْهِ مِنَ الثَّعَالِبِ، فَظَهَرَ أَنَّ قَرْنَ الثَّعَالِبِ لَيْسَ مِنَ الْمَوَاقِيتِ، وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي إِتْيَانِ النَّبِيِّ ﷺ الطَّائِفَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَرَدِّهُمْ عَلَيْهِ؛ قَالَ: فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ.
الْحَدِيثَ، ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَوَقَعَ فِي مُرْسَلِ عَطَاءٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ: وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ، وَلِمَنْ سَلَكَ نَجْدًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَغَيْرِهِمْ قَرْنَ الْمَنَازِلِ. وَوَقَعَ فِي عِبَارَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute