قَتَادَةَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ رَوَوْهُ عَنْ أَنَسٍ كَذَلِكَ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى أَنَسٍ نَفْسِهِ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ كَيْفَ يُهِلُّ بِالْقِرَانِ، فَظَنَّ أَنَّهُ أَهَلَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِمَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا: وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؛ أَيْ مِنْ إِحْرَامِكَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنْ حَدِيثِ عُمَرَ بِأَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ بِلَفْظِ: صَلَّى فِي هَذَا الْوَادِي، وَقَالَ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ. قَالَ: وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ رَوَاهُ: وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ، فَيَكُونُ إِذْنًا فِي الْقِرَانِ لَا أَمْرًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي حَالِ نَفْسِهِ. وَعَنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إِذْنُهُ لِأَصْحَابِهِ فِي الْقِرَانِ بِدَلِيلِ رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى أَنَّهُ ﷺ أَعْمَرَ بَعْضَ أَهْلِهِ فِي الْعَشْرِ، وَرِوَايَتِهِ الْأُخْرَى أَنَّهُ ﷺ تَمَتَّعَ، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِكُلِّ ذَلِكَ إِذْنُهُ فِي ذَلِكَ.
وَعَنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بِأَنَّهُ سَاقَهُ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ، وَقَدْ رَوَاهَا أَنَسٌ - يَعْنِي كَمَا تَقَدَّمَ - فِي هَذَا الْبَابِ، وَجَابِرٌ كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ فِيهَا لَفْظُ: وَقَرَنْتُ، وَأَخْرَجَ حَدِيثَ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ عَلِمَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدِ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَهَا فِي حَجَّتِهِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِلَفْظِ: فَقَالَتْ: مَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ. وَقَالَ: هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ؛ يَعْنِي كَمَا سَيَأْتِي فِي أَبْوَابِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، فَرَوَاهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ هَكَذَا. وَقَالَ زَكَرِيَّا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَجَّ حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَحَجَّةً قَرَنَ مَعَهَا عُمْرَةً؛ يَعْنِي بَعْدَ مَا هَاجَرَ.
وَحُكِيَ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَعَلَّهُ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ، وَزَيْدٌ رُبَّمَا يَهِمُ فِي الشَّيْءِ، وَالْمَحْفُوظُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مُرْسَلٌ، وَالْمَعْرُوفُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَهَلَّ بِالْحَجِّ خَالِصًا، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَائِشَةَ، وَأَعَلَّهُ بِدَاوُدَ الْعَطَّارِ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو فَأَرْسَلَهُ؛ لَمْ يَذْكُرِ ابْنَ عَبَّاسٍ، ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ، الْحَدِيثَ. وَهُوَ فِي السُّنَنِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقِرَانِ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ قَارِنًا، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ مِنَ التَّعَسُّفِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ قَارِنًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ﷺ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ الَّذِي لَا يَعْتَمِرُ فِي سَنَتِهِ عِنْدنَا، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ الْحَجَّ وَحْدَهُ أَفْضَلُ مِنَ الْقِرَانِ، كَذَا قَالَ. وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ أَمَّا قَدِيمًا فَالثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ أَتَمَّ لِحَجِّكُمْ وَعُمْرَتِكُمْ أَنْ تُنْشِئُوا لِكُلٍّ مِنْهُمَا سَفَرًا. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوُهُ، أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا حَدِيثًا فَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَالْمُتَوَلِّي بِتَرْجِيحِ الْإِفْرَادِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا، فَبِهَذَا قَالَ: إِنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ، وَنَحْنُ عِنْدَنَا أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ عَمَلًا. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ بِهِ مُحْرِمًا، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ كُلَّ رَاوٍ أَضَافَ إِلَيْهِ مَا أُمِرَ بِهِ اتِّسَاعًا، ثُمَّ رُجِّحَ بِأَنَّهُ كَانَ أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَدْ بَسَطَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِيهِ فِي اخْتِلَافُ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ، وَرُجِّحَ أَنَّهُ ﷺ أَحْرَمَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا يَنْتَظِرُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ، فَنُزِّلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِذَلِكَ وَهُوَ عَلَى الصَّفَا، وَرَجَّحُوا الْإِفْرَادَ أَيْضًا بِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَاظَبُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ، وَبِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَرِهَ الْإِفْرَادَ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ كَرَاهِيَةُ التَّمَتُّعِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَتَّى فَعَلَهُ عَلِيٌّ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَبِأَنَّ الْإِفْرَادَ لَا يَجِبُ فِيهِ دَمٌ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، انْتَهَى.
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ دَمُ جُبْرَانٍ، وَقَدْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute